هل تأدَّب الحزب؟!

“إلهي لا تؤدِّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك”…

دع عنك إعلام الجزيرة وأفلام الميادين، ودونك تحليلات الديناصور الدويري وأخبار السمج حسين مرتضى، والهراء الذي يقدَّم حول الحرب الدائرة… فإنَّ المشهد في لبنان كما هو في غزة، من الوضوح في الهزيمة والانكسار ما يقف على أعتاب السقوط والانهيار، والأفق المظلم الذي ينتظر حماس ومستقبل القطاع، لا يختلف كثيراً عن الذي ينتظر الحزب في بيروت ولبنان. هناك خارطة سياسية جديدة تقوم إسرائيل برسمها، وواقع تعمل بإصرار على إعادة تشكيله كضريبة على الحرب التي بدأتها “جبهة المقاومة” وشنَّتها قواها عليها، وكلما مضت في أوارها واضطرامها العسكري، واستمر هدُّها وخبطها السياسي، قرب المشهد من نهايته، ودنت الصفحة الحالية من أن تطوى إلى غير عودة! بعيداً عن المكابرة ومقتضيات المعركة الإعلامية والحرب النفسية، بُعدنا عن الشماتة بانهزام المقاومين والرضا بفشلهم وانتكاس أهدافهم وعودة سهامهم إلى صدورهم، فالمؤمن عندنا له حرمته وحقه، ولسنا ممن يسلب هذا وينتهك تلك، مهما كان منهم الجفاء وبلغ الاعتداء. إنَّ حال الحزب في لبنان لا يقل سوءاً عن شقيقه في فلسطين، والظرف العصيب الذي يمر به، لا يحتاج في إدراكه وبيانه إلى كثير فطنة وكياسة، وحتى يقف المتابع على المعضلة التي يعيشها، بل المأساة والطامة التي ينوء تحت وطأتها، يكفي تنبه المرء ويقظته من سبات الغفلة، وأن ينضو ثوب التعصب والجمود وكل ما يغشي البصر ويذهب بالبصيرة، فيخرج عن قطيع المحازبين وفلك الأنصار التابعين، بثغائهم ونهيقهم ورغائهم، فمع الأغنام التي تُذبح لتُؤكل أو لتُقدَّم قرابين، هناك دواب تُمتطى، ثم هياكل جسيمة يحسبها المغتر “قامات”، وما هي إلا رواحل تنقل الأحمال، ونواضح تجوب بالسقاء، وإبل تُنحر لزوم المهرجانات والاحتفالات، ثم ذباب يدوِّي بطنينه المزعج، يتنطَّع بإنجازاته وإن حامت أسرابه على وضر، أو رابطت في فضاء كنيف!

هذه حقيقة جلية واضحة يعرفها السياسيون قاطبة، بل كل متابع عاقل لا يقرأ بعاطفته ولا يحلل بأهوائه، يبلغها دون تكلُّف وتعسُّف، ويكفيه دليلاً، أن يحدِّد الجهة التي تعدُّ الأيام وتحسب الساعات، لإعلان انتهاء الحرب أو وقف إطلاق النار. أما الناشط في الساحة الإيمانية، والرسالي المتابع لشؤونها، الذي ينطلق في تحليله للحوادث وقراءته الوقائع من قيم دينية ومعارف إلهية، فهو لا يتردَّد في أن ما جرى ويجري على الحزب في لبنان هو تأديب إلهي، سياط تجلد ظهره، وعصا عقاب تهوي على جسمه، ومعاول هدم تطال كيانه وبُنيته! والأخطر، أنَّ هذا العقاب، في سُنن التاريخ ونواميس حركته، يسبق الغضب والنقمة والهلاك النهائي، إذا لم يرعوِ العاصي عن غيه ويعود عن ضلاله، وينثني عن تماديه وطغيانه، ويكف عن غطرسته واختياله، وما أوقعه في أخطاء بنيوية وأخذه إلى قرارات كارثية، صُمَّت عنها آذان رهفت للمدح والإطراء، ووقرت دونها أسماع اعتادت تشنيف المتملقين الوصوليين، فعاشت أبراجها العاجية، لا تصغي لناصح، بل تنفيه وتقصيه، حتى باتت همَّة “المستشار”، إن أراد البقاء والاستمرار، تصبُّ في تحري ما يدغدغ خيالات القائد ويحاكي جهالاته، ويجاريه في طغيانه واستبداده!

وهنا وقفة نرجو أن تخلص إلى درس وعبرة…

هل أدرك الحزب أنَّ للبنان خصوصيته في البنية الروحية والتربية الأخلاقية، سُبل بناء الروح وطرق تهذيب النفس وتزكيتها؟ وأن التداخل المجتمعي والانفتاح على البيئات الأخرى يفسح للتسيُّب والانحلال؟ هل عرف أن الاختيال والتباهي، وما يعبَّر عنه بالعامية “الفشخرة”، داء متأصِّل وآفة مستحكمة من ركائز العمل الشيطاني هنا؟ وهو لم يعالجها ليهذِّبها أو يجتثها من محازبيه وبيئته، بل رفدها وغذَّاها لتطغى، ووظفها آلة استعلاء على خصومه، حتى من المؤمنين! فكانوا يعيِّرون الحسينيين بإحيائهم شعائر العزاء وتركهم الجهاد والركون إلى ما يخلو من خطر وعناء، ويسخرون من المنصرفين لعباداتهم والملتزمين أداء واجباتهم الدينية، يتكبَّرون عليهم بانتصارات موهومة وإنجازات عسكرية مزعومة، مرسِّخين لغة المادية الحسية، بتفوق المعطى الدنيوي المادي على الأُخروي المعنوي، وتقدُّم مغامراتهم على الجهاد الأكبر! لم يسمع مسؤول، ولم يكترث معمم معنيٌّ بالتربية ودروس الأخلاق بأصوات التذكير ونداءات التنبيه والتحذير، ومضى الحزب في إذكاء هذه الآفات وبثِّها، وراح يُهلك النفوس بنزعة التفوُّق وما تفضي إليه من كبر وزهو وخيلاء. ولعمري لم يكتف بالتفوق العسكري والاستعلاء على شعبه بالانتصارات، حتى ألحق ذلك بالرغد والرفاه، وتقدُّم عناصره على صعيد المعاش، وما يتمتعون به من السعة والدعة التي أخذتهم إلى مزيد من السقوط في الشهوات ولوث الملذات، واستغراق في اللهو وانصراف إلى الدنيا! ثم الانفصال عن الشعب الذي يعاني العسر ويكابد الضنك… غافلاً أنَّ هذا ـ بدوره ـ رافد جديد يرسخ آفة التباهي والخيلاء، ويحقق عزل الحزب عن بيئته وأهله!

هل عرف الحزب أن هتكه حرمات المذهب واستخفافه بمقدَّساته، يفصله عن التشيُّع ويعزله عن الطائفة، ويأخذه إلى البدعة والضلال أو اللامذهبية والانسلاخ عن الهوية؟! فكأنه بعد انفصاله عن بيئته في الحالة والطبقة الاجتماعية، انفصل عن مذهبه في عقائده وأفكاره، فما عاد الشيعة في العالم يبالون بما يجري على الحزب وأتباعه، وهو الذي هتك مقدساتهم، وابتذلها حين رفع قادته إلى رتبة أئمتهم، وساوى بين أعظم رزايا الدين ومصاب الحسين، المحنة التي فجعت السماء والنائبة التي ناح لها العرش، قرنها بتضحيات لو جمعت من أدناها إلى أقصاها لما ناهضت زفرة أطلقتها الزهراء، ولا بلغت دمعة أراقتها رقية! راح يلطم ويجزع لهذه العابرات، ويسخر من تلك الخالدات، يرفض أن يخدمها حتى بذرف العبرات! غرس الحزب الولاء لقادته وأحلَّهم مكان أئمة الهدى في نفوس رعيته، فمسخ فطرتهم وأفسد جبلَّتهم وأعطب هديَهم! ثم لم يكتف حتى قطع الرافدين الأعظمين: زيارة العتبات بذرائع أمنية، ومجالس العزاء بحجة كورونا والوباء، عطَّل الحسينيات والهيئات بالقوة والإرهاب، وذهب بها عريضة حين لاحق حتى المجالس الحسينية الخاصة المحدودة في بيوت أصحابها، قحمها وسجَّل فيها محاضر ضبط وأحالها للقضاء! بحجج واهية، كان ينقضها في تجمعاته ومناسباته الحزبية، كتشييع الشهداء، لا يحسب فيها للوقاية والضوابط الصحية أي حساب!

هل بان للحزب وانكشف أنه مخترق حتى النخاع، وأن صرف الكوادر الأمنية لملاحقة الهيئات والمجالس الحسينية، وإشغال عناصره بالجبهة الداخلية، له ثمنه من خلو وفراغ أتاح للعدو النفوذ وأفسح له ومكَّنه من تحقيق هذه النتائج الخطيرة؟ هل اتضح له أن المسألة الأمنية لا تعالج بخطاب “جب البلان وأبو طنجرة وأبو دجاجة”؟! وأن الإسرائيلي يعرف جيداً ما يدور في الدور، وما يجري في المقرات وأين يسكن القادة وكيف يتنقلون؟ حتى أصبحوا أهدافاً سهلة، يلتقطهم ويستخرجهم من أوكارهم كما يعثر على إبرة في كومة قش! فما عاد المساكين ينامون ساعة ملء جفونهم، وباتوا كمن نزل به الجرب والجذام، لا يأويهم قريب ولا يرحِّب بهم صديق، خوف صاروخ لا يخطئ الهدف ومُسيَّرة لا تضلُّ الطريق! ثم هل عرف الحزب أن “انتصاراته” السابقة كانت “هبات” و”عطايا” إسرائيلية شيطانية، لزوم ترسيخ حالة ترفد التغرير والإغواء، وتخدم الضلال والإضلال؟! ولو أرادت غير ذلك لأذاقتهم ما سامت به حماساً وفعلته بغزة؟! وأخيراً، هل عرف الحزب أنَّ إسرائيل لو أرادت رأس قائده لطالته، سواء في تحديد مكانه أو في منعة وحصانة مخبئه، لكنها تركته وأخلت سبيله وأطلقت يده، فهي لن تجد أسوأ منه لتدمير الشيعة وتقويض مذهب الحق؟!

كلنا أمل ورجاء، إذا توقفت الحرب دون أن تقضي على إخوتنا في الحزب، وفي الأقل لم تفض إلى نزع سلاحهم، أنَّ لا يتحول هذا الإذلال والهوان الذي يلقونه على يد اليهود ودولتهم الغاصبة، وهذا العجز والرعب الذي يتملكهم من سطوات إسرائيل وغضبتها، وضرباتها القاصمة التي تلاحقهم في كل جُحْر ووراء كل حَجَر… لا ينقلب نقمة مضاعفة ومزيد تجبُّر وتكبُّر على غير الحزبيين، وأذىً يلحقونه بعموم المؤمنين، والأهم الذي نخشاه، أن لا يكون ثمن وقف إبادتهم، صفقة تنطوي على التعهد بمزيد تزييف للدين وبث للضلال والبدع وما يخدم أهداف الشيطان الرجيم!

“ومن البليَّة عذْلُ من لا يرعوي عن جهله وخطابُ من لا يفهم”

التعليقات