حين تلقيت تحفة الميلاد

كان اشتقاقاً وتكراراً، أو قل: استنساخاً، يحكيه “بضعة مني”، ظهر في الدنيا تناسلاً وميلاداً. إنَّ هذا الكائن الملكوتي والوجود الجبروتي الذي أشرق على عالمنا بصورة امرأة، هو مجلاة لنور العظمة، ضياء انبلج منه وسناً يشير إليه.

لا حدَّ لعطايا الله وهباته، ولا نهاية لعوائده وآلائه، منَحٌ لا تحصى ومنن لا تعدُّ، عمَّ جوده وسبق نداه وغلب فضله وذاع نواله، مالٌ وبنون، صحة وعافية، أمن وسلامة، جاه واعتبار، وضروب الفضل الظاهر والإحسان الخفي، في رأسها وسنامها الأعلى، عطيَّة الإيمان والأخذ بأسبابه، وفسحة تحصيل محمود الخصال، وبذل السلوك لنهج الكمال، والتمكين من الارتقاء في مدارجه حتى بلوغ غاياته… وقد غلبه الطمع والرجاء في ليلة ميلاد الزهراء، وانبسطت إليه الآمال من انفتاح أبواب السماء، فرمى بطرفه بعيداً، واستحضر حديثاً سابقاً طالما راود أحلامه، فطلب تحفة من سنخ البهجة التي عمَّت قلب عالم الإمكان صلوات الله عليه وآله بميلاد ابنته، رجا أن تأتيني المكرمة من عالمهم لا من دنياه، وتطاله من منزلتهم لا على قدره! ولا تسل عما وقع بعدها وكيف، ولكنه ما فرغ من إنشاء عريضته، ولا انثنى من نثر مناجاته وشكواه، إلا بسكون نفس إلى الإجابة! لا يخامره ريب أنه بالغ أمله، وكأنَّ الهاتف الذي أمر نواصي الرغائب أن تعنو، وزجر الصعائب أن تذل وتلين، طرَق سمعه أيضاً وبلغ فؤاده، فبات على يقين!

بدأ الأمر حين شرع في تذوُّق: “فما أحلى أسماءكم”، واتخذ من “فاطمة” ذكراً يلوذ به وورداً يلهج بترديده، لا يكثر بقدر ما يتدبَّر، ولا يكرِّر بقدر ما يتفكَّر، يُعمل حسّاً مرهفاً يزعمه، ويُنفِذ بصيرة بقيَم الجمال وسبحات الجلال يدَّعيها، وأيسخِّر حباً يتملكنه ورقّـاً يرتهنه، أفضى يوماً إلى خدمة يحسب أنه أدَّاها لسيدته: دفاع عن ظلامتها، ووقفة أمام ضال يتحرَّى الذرائع ليُبرِّئ أعداءها، يلتمس الأعذار لمقتحم الدار، ويحتال في غرس الشكوك في قلوب شيعتها.. لم يجد غير هذا شفيعاً ووسيلة، فكأنه راح يسأل عليه الأجر، متغافلاً أنَّ العبد وما ملكت يداه مُلكٌ لمولاه! مراهناً على كرم يتعالى، وأريحية تتسامى، تأنف، فتبذل بلا استحقاق، وتشمخ، فتسخو بلا جدارة وخَلاق… مضى يردِّد اللفظ المقدَّس ويعيده بأناة، ثم صار إلى الشدو والإنشاد، والترنم والترطيب، حتى بلغ التحنان والصبوة، والتوق واللهفة، عندها أستمرأ ريقه، وصار رضاباً يرتشف، كأنه تناول شهداً أو تلذذ بحلوى يخامر مذاقها خيط من حموضة يستطيبها! ثم أخذته النشوة وغمرته البهجة، وغلبته ما لم يتبينه من المكنون في اللفظ والاسم، بعد الفكرة في المسمَّى والمعنى، وما تشعشع من المصباح وشفَّ من الزجاجة، ورشح من الإناء وانساب من الوعاء، وتدفَّق من منبع الفيض، وانبجس من عين الحياة، وقد تلقاه، كقائم في حجر إسماعيل، تحت ميزاب الرحمة في يوم مطير، يستقبل المنهمر عن سقف البيت وسطح الكعبة، أغتسل وأتطهر، وتهيأ أن يوافيه “النور” ويغمره الضياء، ويجد في بدنه محلاً وموضعاً يليق، وفي روحه سعة لا تضيق، فيلحقه العروج، بعد هذا المسعى المهيَع والمسرى الأسرع، يأخذه إلى حضرة تستشرف، أو كوَّة ونافذة تطَّلع وتستحضر، بل هي كرة احتوته، غلافها أثير يشفُّ لا يمنع الرؤية، أُلقيت في المشهد، كذرَّة تسبح في فضاء تلك العرصة، وهي الأدنى إلى الدنيا، إذ لا سبيل لبلوغ الحضرات الأعلى، ولا أهلية لشهود وتلقي الأقرب إلى تمام النور وصِرف الضياء والحقيقة المطلقة، وقد تمثلت هنا وظهرت، بما يستمد من الضئيل المعهود في نفسه، والنزر القليل الذي يسعف بسط الفراش ونصب الخوان لتلقي أزكى الطعام، ويحتمله التعقُّل والإدراك منه. وكانت الرحمة به والرفق بتواضع شأنه وهزيل قوامه، هو سيد الموقف والعامل الفاعل فيه، يحكمه حذر الهلاك عند كسر الجامد من فكره، وبلوغ الحتف مع عصر الضعيف اللين من نفسه.

يقصر الفهم عن العلم وتعجز الفطنة عن التفسير، فيعيى اللسان ويكلُّ البيان… فلا مناص أن يقع الفكر في تداعي المعاني، ويلجأ إلى التمثيل والتشبيه، بعد تحرير المشاعر والإخلاء لها لتنطلق من خالص الفطرة، تتفاعل، فينطبع فيها ما انفعل، ويرسخ ما نهض فوجد المحل، ويترك إنزال كلٍّ منها في موضعه من المعارف الإلهية، ومكانه في منظومة العلوم الدينية، فالحضرة من الشرف والخطر، والمشهد من السمو والرفعة، ما يقهرك على الاحتشام والخفر، ويلزمك الحيطة والحذر، فالماثل هنا يشعر من فوره بضئيل حجمه، ويقف على صغير قدره وحقير شأنه، وقد أودعته الأهواء والجهالات حضيضاً، لولا دلو ملقى وحبل ممدود، وسيارة عابرة، لمكث في غيابته دهراً. فعاد بصيراً وخرج بحكمة ذهبية، أن لا يتطاولن ويخوض فيما يجهل، ولا يخرصن بما لا يحيط بتمامه فيبخسه حقه، لا يدري أنَّ في ذلك حتفه.

كما هو البناء والتصنيع في الدنيا، تُلحظ فيه كُلفة المنتَج، والجهد المبذول في صنعه، والمواد التي اتُخذ منها، آلة ومتاعاً أو صرحاً وبناء، مما يتناسب مع حجمه وخطره، وقدرة صانعه ومهارته، فلا يصرف الحكيم في المنتَج الحقير والـمُخرَج الصغير ما يبذل في تشييد البناء الجليل كناطحات السحاب والجسور المعلقة والأنفاق التي تخرق الجبال وتسلك قعور البحار، أو الآلات الخطيرة كالحواسيب الجبارة ومنظومات التحكُّم والاتصال، والأقمار الصناعية وسفن الفضاء، التي تفاخر الشعوب المتفوقة وتزهو بصنعها، وتباهي الدول المتقدمة وتختال بإنتاجها… كذلك الحال في صنع الخالق وإبداعه! لكن بانتفاء أمر الجهد والعناء، لمطلق القدرة وانتفاء العائق والمانع، وعند المقارنة، يهتف الوجدان قبل الدليل والبرهان: “تبارك الله أحسن الخالقين”. وتبقى مرتبة الخلق في الجلالة والعظمة، تتبع أو تلحق شأن المخلوق في الوجود، ودور المصنوع ومرتبته في عالم الإمكان، وما يريده الله سبحانه وتعالى منه وله، فالموجودات الإلهية الربانية، وآيات الله على اختلافها وتفاوت مراتبها، إنما تبلغ ما هي عليه بما تناله من رشحات بعض أسمائه وصفاته، جمال وجلال، جود وكرم، علم وحلم، رحمة وعدل، قوة وقهر، ونقمة وغضب… فإذا بلغ الأمر حبيب الله، وأحبَّ شيءٍ إليه تعالى، وما سينهض بدور قلب عالم الإمكان، ويكون القنطرة بين الوجب والممكن والقديم والحادث، إذ “خلقَ الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة”… أعمَل الله جلَّ وعلا فيه عظمته، لينبثق كائن هو مجمع أسمائه وصفاته، يحقِّق في سموه وكماله مشيئة الله تعالى، ويكون وعاء إرادته أمره!

هكذا، من نور عظمته جلَّ وعلا، أبدع الله أعظم خلقه، وبرا أجلَّ كائناته… فخُلقت فاطمة!

ومما شُهد في حينه، وأسعف الحظ في تدوينه، هذا الوجيز الذي يحكي لحظة أو ساعة، تعدل طرفة العين فيها، أحقاباً من دنيانا ودهوراً:

ليل بهيم حالك، وظلام مطبق دامس… عتمة حندس تتقلَّب في العمى والتيه، وتطمس على البصر وتقطع النظر، أستار ضربت وحُجُب أُرخـيَت فلا يظهر شيء هنا لـيُرى، كأنها مدينة أضرَّاء ودار أكفَّاء، فحمة دُجُـنَّـة، مهما أحدق المرء وبحلَق، لا شيء يتراءى فيظهر، ولا في الأُفق ما يلوح فـيُسفر، بل لا أُفق هنا ولا فضاء، طبقات من ظلمة فوقها طبقات. كأن الزمن توقف على هذا وجمد، هدْءٌ قائم، وهزيع دائم، ديجور سيطول، لا ينقضي ولن يتصرَّم، سكَّر الأبصار، فعشاها وأورثها الغطَش والحـسَر!

يبدو أنَّ قصة العشق لم تجر هنا بعد، ومقولة الحب لم تفعِّل الكُنه من هذه الكائنات، وتبعث فيها الحياة، وتلقِّنها سرَّها، فبقيت هامدة خامدة، تحكي العدم والخواء، وتصوِّر الإحجام والتعثُّر، وتعكس الانقطاع والجهل المطبق، حتى بأصل وُجودها وبديهة شيئيتها. فمقولة الحبِّ لم تكن قد وجدت سبيلها إلى هذه الكائنات بعد، ولا أدركت ما يدفع الجواهر فيها للنبض والنزوع والحراك… أو قُل ما انجذبت هي إليها، ولا يمَّمت شطرها ولا انفتحت عليها، وإلَّا فالمحبوب ضياء يتشعشع، وفيض يتدفَّق، وعطاء يسري ويرشح، بجود لا يُمسك، وسخاء لا يشحُّ، ومعين لا ينضب، فما عرفوه حتى يحظوا بأوَّل النعم وجذر الكرامات: طيب الولادة، وهو هنا: إدراك النفس ومعرفة الذات! فبقوا في بهمة الجهل وظلمة الغربة وخوف الوحشة، لم تنبلج في ذواتهم أنوار النجابة لتقودهم إلى السعادة والبهجة، لعلَّها عجينة تم خلطها ودعكها وتصويرها، لكنها لم تختمر، وأيام ستة لم تطوَ، وطور بكر لا يتكرر؟! فالملائكة أول خلقها، كانت تعيش ظلمة ليلاء وسدَفة سوداء، فعمىً وغطش، تتقلَّب في ”نسياً منسياً”، من أثر النفي وقرب عهدها بالعدم، فقد تكسَّرت أسواره من حولها للتو، لم ترتضع ضوءاً ناهيك أن تفطم، ولا أُشبعت من مشهد ومنظر، ما جعلها في ذهول عن وجودها، لا تعرف نفسها، ولا تدرك ذاتها… حتى عرضت ساعة عشق خالص صَرْد، غمرت الملكوت، وزهت لحظة حبٍّ أُشربها العرش فانتشى وطرب، واهتز لها اللوح وجرى القلم، يبدو أنها من لوازم العبودية ومظاهر التنزيه ونفي التشبيه التي يعيشها أربابها مع ربهم الأعلى، فخطَّ ذلك العزم والإرادة، وقضى بالمنح والإفاضة، فحانت من الأنوار إلى ”الأشياء” التفاتة، وعمَّها من ذاك النوال لمحة ونظرة… سطع نور وأزهر ضياء، وظهرت فاطمة الزهراء، انقشعت الظلمة وانجابت الوحشة وانجلت الغشوة، فصارت الكائنات تدرك ذواتها، وتعلم من نفسها الوجود!

لعمري، أين يعيش الغافلون وفيمَ يكدحون وبمَ ينشغلون؟ عن أي قوة وسلاح يحكون، وبأي اقتصاد ومال يفاخرون، وبأي سلطان ودولة يباهون؟ لو حضروا هنا، في هذا الملكوت الأدنى، دون الأعلى، لحظة بقدر ما تطرف العين في الدنيا، وشهدوا طرفاً، ولا أطراف هنا ولا أنحاء! لهالهم وصعقهم الماثل من الكائن، ناهيك عمَّا كان وما سيكون، ولا زمن هنا يتقادم، ولا أيام تتابع!… إنهم وما يغترون به من قنابل ذرية وصواريخ عابرة للقارات، وتفوِّق في الاتصالات، وعقول آلية ومعارك سيبرانية وقدرات خرافية، ثم اقتصاد يستحوذ على معاش الناس، وسياسة تهيمن على مقدرات الكرة الأرضية وتتطاول إلى باقي الكواكب، هباء منثور وعهن منفوش، أهون من جناح بعوضة، وأحقر من قلامة ظفر!.. ثم يقايض السفهاء هذه المعرفة بحطام موهوم، وخشاش منه يعلفون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً! “أقبلوا على جيفةٍ قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا (توافقوا) على حبِّها، ومَن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأُذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه”.

على رغم أنه لم يلحق بشيء، ناهيك أن يندمج بحال، ومضى بعيداً عن أدنى الفناء والمحو والمحق والصعق وما إلى ذلك من مقامات ومصطلحات لا يفقه عمقها، مكبلاً بـ “كثَراته”، منفصلاً عن الحضرة في حظيرته، يسوق شياهاً يطلب لها المرعى، يلهث من علَّة وسغب وظمأ، يتحرَّى مورداً ويلتمس منهلاً، فجاء الميلاد بالتحفة، لكنه ما عاد من السفر إلا والعشق يتغلغل في كل ذرة من جسمه، ويملك كلَّ روحه، كأنَّ شيئاً لازم نفسه من ذلك النور الزاهر الذي أشرق على الملائكة، وهذه غيوم تتراكب وسحب تتراكم، تبشِّر بهاطل، وهاتف يسرُّه: إنها تتحف محبيها وشيعة بعلها من أُمة أبيها… هذه بارقة جادت بماء، سطعت على روح عاشقة، وانهمرت مزناً ونزلت مائدة من السماء، تحيي الموتى وتنفخ في الطين فيكون طيراً وتبرئ الأكمه والأبرص، وتنبئ عما جرى في الصقع الأول وما دار في بواكير الوجود. والآيات الكبرى التي رأت، أن الأفلاك في السماوات تطوف في مطاف، وليست تحلق في مدار، كل الموجودات مذ كانت تمضي في حركة دائمة تأخذ شكل التحليق حول محور والطواف حول مركز، هو نور فاطمة الذي انبلج، وضياؤها الذي انبعث، إزهار ملأ الثقب العظيم وردم الهوة السوداء في التكوين، فأعدم الظلمة ونفى كلَّ نقص وشقاء، أزهرت الحقيقة في صبح الأزل، وسطعت على هياكل تهتف بأنه تعالى هو الأحد وهو الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وبان سرُّ عشق عليٍّ لهذه السورة، واستغراقه في هذا التجلي الأجمل، حتى اقترن به فتدفق عبرهما الفيض، وتشعشعت منهما بقية الأنوار.

أطفئ أُخيَّ السراج، فقد طلع الصباح، وكفِّي يا دعد الدلال، فقد نضب المداد وانثلم اليراع.