يحكى أن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، أمر في إحدى “نوباته”، بشن حملة للقضاء على ما أسماها بالآفات الأربع: العصافير، البعوض، الذباب، والفئران، كونها علل انتشار الأمراض وإتلاف المحاصيل. اتَّبعه ـ بطبيعة الحال ـ الحزب، وامتثلت له الحكومة، وقامت حملة شعبية لإبادة الحشرات واصطياد الفئران وقتل الطيور، لجأت إلى مختلف الطرق وشتى الوسائل، حتى نجحت في ذلك إلى أبعد حدود… ولكنها بعد سنين، اكتشفت أن الفكرة أفسدت أكثر مما أصلحت، فقد تسببت الحملة بانتشار الجراد، ما أفضى إلى مجاعة راح ضحيتها أكثر من 20 مليون نسمة!
هناك معطيات أساسية خافية علينا كشعوب، حول كيفية صنع القرار السياسي وما يدور في أروقة النخب، ويجري على صعيد الدول، معلومات لا يمكننا، دون الوقوف عليها والإحاطة بها، أن نحسن تقييم الحكومات، فنحكم أن سياسة الجمهورية الإسلامية مثلاً، وقرارها هنا كان مصيباً، أو أن فعلها وأداءها هناك كان “مصيبة”! وكثيراً ما يواجهنا أتباع إيران وموالوها بأن ولي الأمر أدرى بالمصلحة وأكثر حرصاً على الدولة الإسلامية ودماء الشهداء. وما زال هؤلاء يفسدون الرجل بالمدح والإطراء، ويخدعونه بحجْب النُصح ومنع النقد، والذهاب في التعظيم وكيل الثناء، والمبالغة في التبجيل وأسباب الإغواء، حتى قدموا قراءة جبرية لحركة التاريخ وفعل الإنسان، ترى أن إرادة الله تجري وتتحقق على يدي الولي الفقيه، فما يرتكبه من أخطاء هو إملاء الغيب ووحي السماء، فلا بأس بعد هذا ولا غضاضة!
لكننا نطوي عن هذا كشحاً ونسلِّم جدلاً بأننا لا نفهم في السياسة، ولا نحيط بأسباب أو نملك معطيات صنع القرار، ونجهل أسرار وخفايا اتخاذ الموقف، لذا لا نحكم على ما تعاني منه الجمهورية الإسلامية في ملفات العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين وباقي الخليج، وكذا الملف النووي، بأنه إخفاق مريع، ولن نصنِّفه تورُّطاً واحتباساً في عنق الزجاجة، أو ضرباً من الغصَّة بالموسى، ولا نحسب الأزمة الاقتصادية، وانهيار العملة الإيرانية فشلاً ولا هزيمة واندحاراً… بل سنراها ـ كما يريدون ـ نجاحات وانتصارات، بمناسبة قدرة إيران على الصمود أمام مؤامرة عالمية كبرى تستهدفها.
ولكن، في المقابل، هناك بديهيات في الحياة، يدركها حتى غير المتخصص في الحقل، فيعلم غير الطبيب أن التخمة مضرة بالمعدة، ويفقه غير المهندس أن المباني القائمة على الخرسانة المسلحة بالحصى والحديد، أقوى وأكثر استحكاماً من المبنية باللبن والطين والتبن… وفي عالم السياسة يعلم كل عاقل أن مَن يخوض حرباً مصيرية، عليه أن يحيِّد الجبهات الجانبية ويوقف المعارك الهامشية التي تشغله وتستهلك جهده وتستنزف طاقته، أو تبدِّد قوته وتضعضع جبهته الداخلية. إن إدارك ضرورة تخفيف الأحمال عند صعود الجبال، لا يحتاج إلى علم وتخصص، ولا فلسفة وفذلكة! فهذا بديهي لا يختلف عليه اثنان، ولا سيما حين نشهد ذلك في الأداء الأمريكي نفسه، وهو يعمد إلى تحييد الجبهة الكورية وإغلاق الملف هناك، ليتفرغ لمعركة أهم وأخطر عنده.
منذ نحو أربعة وعشرين عاماً والجبهة الشيعية الداخلية تنزف مع بداية كل محرم، تقضي الموسم الحسيني كله وتنشغل من مطلع العام إلى الأربعين وحتى نهاية صفر، بمعارك كلامية طاحنة، وحرب إعلامية شعواء، وتراشق وعراك لا يوفر وسيلة وأداة. في كل عام صارت لنا واقعة وملحمة، نتبادل فيها الطعن والتسفيه والقذف والتخوين، فتهدر الإمكانيات وتُبدَّد الطاقات وتستنزف الكفاءات! وما زلنا في هذا، لا يكفُّ طرف أو يُمسك، وهو يراه تكليفه الشرعي وواجبه العقائدي، وميداناً وجبهة يذود فيها عن دينه.
إنها محنة طاحنة قاتلة، وفتنةٌ مُهلكة مدمِّرة أشعلتها القيادة الإيرانية، وشخص السيد القائد، في آخر ذي الحجة 1414، الموافق 9/6/1994، ما انفكت تذكيها وتسجر لهيبها منذ ذلك الحين! وما زالت تلقي في محرقتها الضحايا وتقدم في سبيل “فيضانها” (على عكس الهدف من عروس النيل) القرابين، وإن كانوا من أعز الرموز وأغلى الذخائر! وآخر ضحاياها كان السيد نصرالله، الذي فقد شعبيته في أوساط السنة والشعوب العربية ظلماً لدخول حزبه الحرب في سوريا، وها هو يفقدها في أوساط الشيعة حقاً لتدخُّله الظالم في الشعائر الحسينية!
دعك عن أدوات المعركة التي يخوضون ووسائل القتال التي يستعملون، وكلها خطاب عوام ولغة تحاكي الأغبياء، تطرح الأكاذيب أو تصوِّر ممارسات شاذة مغمورة محدودة لا تتجاوز نسبتها 01% من مجموع الشعائر الحسينية، فلا وجود للزحف على الزجاج ونباح الكلاب ونطح الجدران أو التطبير بالعصي والألواح ولا اللطم بالنعال، إلا في إعلام مَن يزعمون محاربها! إنها مواد مختَلقة (وفي أسوء الأحوال مضخَّمة ومهوَّلة) لا يروِّجها ويشيعها إلا أعداء الشعائر. والمأساة الكبرى والفاجعة العظمي تقع عليهم وتصيبهم في الحالتين، سواء أكانوا يعرفون أنها أكاذيب، أو كانوا يؤمنون حقاً بأنها تشكِّل خطراً، راحوا يحاربونه كما يبارز “دون كيشوت” طواحين الهواء، فانظر في أي وادٍ تهيم القيادة “الواعية”، وتأمَّل من بعدُ في حال المحازبين والأتباع!
ودع عنك التبجُّح بمقولة الجهاد وأن عطاء عاشوراء هو في الثورة والقيام، لا البكاء والعزاء، فلا أحد يعبث بمفهوم الجهاد كما تفعل إيران وحزب الله، الذين تفوَّقوا على جميع أحزاب العصر ودول الزمان في البراغماتية، والتماس الصيَغ العملية التي تلتف على المبادئ والأخلاق. وها هم أتباع السيد القائد ـ بأجمعهم ـ خارج إيران قاعدون خانعون!
هل يحسب الخطاب الإيراني والحزبي أن سخافته وتهافته يمكن أن ينطلي على المؤمنين الأكياس والموالين البصراء؟ وهم يعيشون الساحة بجميع أبعادها، فلا يرون شيئاً مما يعاب به عليهم، من الصغائر التي يعظمها القوم والنوادر التي يضخِّمونها ويهوِّلونها، فالملايين التي تحضر المجالس وتعمر الحسينيات وتزور العتبات، لم تر شيئاً مما يدَّعى ويزعم!… فعلامَ الصرخة ومِمَّا التباكي والشكوى؟! وكذا الأمر في الوجه الآخر المطروح للمعركة، أي الجهاد والقيام، كيف لنا أن نصدِّق هذه المقولة ونحن نرى حمَلتها من الغارقين في المال والتجارة، قد غمرهم الرفاه والترف، أخلدوا إلى الأرض حتى التصقوا بها بعد أن اثاقلوا إليها، وهم من أكثر الناس ولاءً لأنظمة الجور وأبعدهم عن المعارضة! اللهم إلا الصورية التي تتحرك في نطاق اللعبة وتدوير الزوايا!؟
علينا أن نبلغ السيد الخامنئي ونقنعه، وهو أصل المشكلة وأساسها، ومن بيده حلها وإنهاؤها، بأن العجز والضعف ليس فيه هو، إنما هي قوة الحسين وشعائره وكل ما يتعلق به وينسب إليه، ولو اجتمعت كل أنظمة الحكم في العالم لتقف في وجه الشعائر الحسينية لعجزت وأخفقت، فلا يستنكف أن يعلن هزيمته، ولا تأخذه العزة بالإثم أن يتراجع. علينا أن نرفع أصواتنا علَّها تتجاوز الأطر الحزبية والنطاقات المخابراتية التي تحاصره:
سيدنا الجليل، لا تصغ لبطانتك، ولا تركن إلى ما يُرفع إليك من تقارير، فكُتَّابها يخشون انقطاع المدد، وتوقف الأموال التي تغدقها عليهم.. إن ما قمت به هو كارثة أوهنت البيت الشيعي، وضعضعت أركانه حتى لاحت نذر تقويضه وانهياره. وهو عمل يجانب أوليات الحصافة والحكمة، ويباين بديهيات التعقل والفطنة.
سيدنا الجليل، التطبير لا يشوِّه التشيع في أعين الغربيين، ولا هم يبالون به أو يكترثون له، قدر ما تفعل سياستكم وأداء أحزابكم، إن ما يجيِّش الماكنة الإعلامية الغربية والعربية على التشيع والشيعة ليست الشعائر الحسينية، بل سياساتكم الثورية وشعاراتكم ضد أمريكا وإسرائيل والأنظمة العربية بالدرجة الأولى، فإذا كنت حريصاً على رضى الغرب واستمالة العرب، فكفَّ عنهم، يكفون عنك. وعلى أية حال دعنا نحن وديننا، ولا تقحمه في حربك مع العالم، فالدول والأنظمة تنشأ وتزول، والتشيع باق، ظهر الأدارسة في المغرب، وأسس البويهيون دولة في العراق وفارس، وظهر الحمدانيون في سورية والموصل، والفاطميون في مصر، والصفويون والقاجار في إيران، ودولة أوده في الهند، وكلها رحلت وزالت، ولن تكون الجمهورية الإسلامية بدعاً في التاريخ ولا بيضة الديك… لكن التشيُّع باق إلى الظهور الشريف، وهذه الشعائر هي من أعمدة بقائه وأسرار دوامه.
وكما لم يكن الإمام الخميني رحمه الله “رجل من قم” (وقد أتيناه زحفاً على الثلج) يسلِّم الراية إلى المهدي المنتظر عليه السلام، كذلك لست أنت الخراساني، ولا السيد حسن هو اليماني، ومن المؤكد أن أحمدي نجاد لم يعد شعيب بن صالح!
كتبت هذه المقالة في ردِّ أخ كريم، تبجَّح وهو يرخي رجلاً على أخرى، ويرتشف قهوته بهدوء، ويتعمَّد إظهار ساعته الرولكس “الجيليني مون فيس”، تخطف أنظار أضرابه في معصمه، بأن انهيار التومان لا تأثير له على إيران. فسألته: ماذا لو كنت تملك عشرة آلاف دولار، هي مجموع مدخرات عمرك، ثم أخبرك المصرف الذي أودعتها فيه، بأنها صارت ثلاثمئة دولار فقط لا غير، ما هو شعورك؟! سكت “الثوري” عن الجواب، وقلب الموضوع إلى السؤال عن سبب مقاطعة المؤمنين مطعم الساحة الذي يملكه فضل الله، ورفضي دعوته للغداء هناك؟!
هذا هو نطاق المعركة عندهم وميدانها، القوم عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، وأسفي على درر في زهرة العمر وريعان الشباب، راحت ضحية الإغواء.
أكتب قصة صديقي هذا آمناً من لومه وعتابه… فهؤلاء لا يقرأون!