لا يبدو أن إطلاقات حسين العصر وعلي الزمان وما يدور في أوساط أتباع إيران ومقلدي السيد الخامنئي، يخضع لسقف وسطح، أو يتوقف عند حدٍّ ومدٍّ، يكفُّ عن الذهاب وراءه ويحجم عن المضي بعده. ولا هو من تنطُّع متزلِّفٍ لوى شدقه ليتفلسف ويتفصَّح، وتحذلقُ مداهنٍ متملِّق يطلب الجائزة من وزير ويرجو صلة الأمير، بل هو نهج وعقيدة، آن أوان كشفها والجهر بها، وسيرة ستمضي في تخطي الحواجز وكسر الحدود وصدم الواقع بما ينفي الوحشة، ويفرش أرضية البحث وبساط التداول، ما ينتهي إلى القبول، وفي أدنى المحصِّلة الاندراج في المعقول!
ففي خضم هذا التهابط والإسفاف، وحمَّى التسابق على السقوط في النار، انتشر مؤخراً تسجيل مرئي للشيخ أحمد جنتي رئيس مجلس الخبراء، بفجٍّ أشبه بالجلاميد، وغثٍّ تمجُّه الأسماع ويشنؤه كلُّ سويٍّ سليم، يستنطق فيه لسان حال السيد الخميني، يفترض له مقولة أو وصية تنادي بـ “إني تارك فيكم الثقلين”، “الثقل الأول هو الإمام الخامنئي الذي هو عليُّ زماننا، والثقل الثاني هو النظام والحكومة الإسلامية”! وبينما كانت الساحة في ذهولٍ حمَلها على التثبت من صحة التسجيل، وحقيقة النسبة وعدم التلفيق والتركيب، تلقت صفعة مدوِّية وخبطة قاضية من كاظم صدِّيقي إمام جمعة طهران، لبَطها ورمح بها وهو في معرض بيانه كيفية صناعة القرار الذي يحقِّق الإنتصار، قال: “إن الكلمة الأولى في رأس الهرم تصدر عن القائد، الذي ينفعل ويلتئم (يغلي ويضطرم)، فهو له حضوره وله علمه وله معرفته، ولكنه ليس هو! إنه الله الذي تجلى في وجوده”!.. والأمر كما هو بيِّن جلي، لا كناية ولا استعارة، ولا تشبيه ولا تمثيل، إنه بوضوح تام قول بالحلول! والجرح يسكنه الذي هو آلم، فإذا كان الخامنئي هو الله تعالى، فأي ضير أن يكون القرآن الكريم هو حكومة ظلم وفساد وضلال، وأي بأس أن تقرن العترة الطاهرة بهذه النظائر وتنحدر لتقاس بسلطان جائر!
ويأتي هذا القول الشنيع والإفك المريع في سياقٍ باتت الحركة الإسلامية ونهجها الحداثوي التنويري تعيشه من جمود غير مسبوق للعقل، واستلاب مهين للفكر، ناهيك بانعدام الإرادة والقرار، وتسيير آليٍّ ما عاد له نظير حتى في الصين، اللهم إلا في كوريا الشمالية، وهنا كما هناك، عبادة مخجلة للشخص وتقديس وثني للرمز، وصنمية تتخطى البوذية وتفوق الهندوسية!
والأمر وإن كان سابقة في التشيُّع، أن تتهاوى المفاهيم وتتحلل الأسماء والألقاب، وتهتك الحدود وتتداخل، فهو ليس وليد يومه ولا ابن ساعته، ولا بدعاً في تاريخ الحكَّام، ولا هي أول قارورة تكسر في الإسلام! فالصديق والفاروق، والأخطر أميرالمؤمنين، هي ألقاب علي عليه السلام وأُطلقت على غيره. وإن توقف هذا النهج بعض الشيء في العصر الأموي، لما يبدو من عزم على مسخ الأصل وتغيير الجسم، ما ينفي الحاجة لخلع الأثواب ولبس الألقاب! فإنه عاد بزخمه الأول في العصر العباسي، واستمر ليمتد حتى الفاطمي والأيوبي والأموي الأندلسي… وها هو يعود بأقبح صوره وأبشع أشكاله في العهد الخامنئي!
ويبدو أن تناسباً عكسياً يحكم الغلو والتمادي في هذه الإطلاقات، فكلما استشعرت البطانة في قائدها مزيد جهل وصغار وضعف وهوان، عمدت إلى المبالغة والإسراف في الألقاب، عسى أن تمحى الصورة من الواقع وتزول من النفس على السواء.
من هنا، لمَّا كان مكمن العقدة عند بني العباس هو البيت العلوي النبوي، تراهم عمدوا إلى ألقابهم وكناهم، فأطلق محمد بن علي بن عبدالله بن العباس السفاح على نفسه المرتضى، وتسمَّى محمد ابن المنصور بالمهدي، وابنه موسى بالهادي، ثم جاء الرشيد والأمين والمأمون، والمعتصم والواثق والمتوكل، والمنتصر والمستعين والمعتز، والمهتدي والمعتمد والمعتضد، والمقتدر والمرتضى والقاهر… وراحت تترى الألقاب والصفات وكلُّها بالله، الذي يُقتل أولياؤه على أيديهم، ويُزجُّ بهم في سجونهم! ولما جاءت الدولة الفاطمية الإسماعيلية كان المهدي والقائم بأمر الله، والمنصور بنصر الله، والمعز لدين الله، والعزيز بالله، والحاكم بأمر الله، والظاهر لإعزاز دين الله، والمستنصر بالله، والمستعلي بالله، والآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والظافر بأمر الله، والفائز بأمر الله، والعاضد لدين الله… وهكذا فعل الأيوبيون والمماليك والأمويون في الأندلس، حتى أنشد الشاعر:
ومما يُزهدني في أرض أندلس @ أسماء معتمد فيها ومعتضد
أسماء مملكة في غير موضعها @ كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وهذه وتلك كما ترى، تبقى في حدود ونطاق لا يترتب عليه في ظاهر الأمر والحكم كفر أو زندقة، ولهم أن يعزوه إلى التيمُّن والتفاؤل والرجاء، وعناوين أخرى تزينها لهم شياطينهم… ولكن ما يجري في الدولة الخامنئية، على صعيد الحكومة والقاعدة، والمؤسسات والأحزاب، فهو شيء آخر يقرب من المسِّ والجنون ولوثة واختبال.
وقد اعتمدتُ ما صدر من أعلام القوم كالسيد نصرالله والشيخ جنتي والشيخ صدِّيقي، أما ما أوكلوه لعوامهم، وما يجري على يد قاعدتهم، ولا سيما جيشهم الألكتروني، فمن الكفر البواح، والزندقة التي لا يتردد فيها مؤمن مهما احتاط وتورَّع، والتمس محامل الخير والبراءة.
لم يحدِّثنا تاريخ الأديان عن مثل هذا الطغيان، من غير طبقة النمرود “أنا أحيي وأميت”، وفرعون: “أنا ربكم الأعلى”!.. وإن أحسن بعضهم الظن في الخامنئي ورأى أنه لا يحسب نفسه رباً ولا يقول بالحلول، ولكنه كما يبدو من قرائن وشواهد، يرى لنفسه ودولته مقام الثقلين، ولا يرى ما هرف به الجنتي شططاً..
بالأمس بادرني أحد العرفاء الكمَّل، الذي طالما استبق برؤيته النافذة الحوادث ووقائع الأيام، وقرأ ببصيرته خارطة طريق النجاة والفلاح، كنت أشكو إليه قبل حين ما يفعلون بالمذهب والدين، فقال: أرأيت كيف فعل ربك بالمستكبرين؟ أرأيت عاقبة الجرأة على سيد الشهداء، وجزاء محاربة شعائر عزاء الحسين. إن هذا التمادي والوقوع في الكفر، هو علامة الخروج من حول الله وحفظه، والدخول في حولهم وقوتهم. وهو أقصى قصاصٌ يمكن أن ينزل بهم، وأشد عذاب استُدرجوا إليه ووقعوا فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.