عندما حلَّ اللهُ في الخامنئي!..

لا يبدو أن إطلاقات حسين العصر وعلي الزمان وما يدور في أوساط أتباع إيران ومقلدي السيد الخامنئي، يخضع لسقف وسطح، أو يتوقف عند حدٍّ ومدٍّ، يكفُّ عن الذهاب وراءه ويحجم عن المضي بعده. ولا هو من تنطُّع متزلِّفٍ لوى شدقه ليتفلسف ويتفصَّح، وتحذلقُ مداهنٍ متملِّق يطلب الجائزة من وزير ويرجو صلة الأمير، بل هو نهج وعقيدة، آن أوان كشفها والجهر بها، وسيرة ستمضي في تخطي الحواجز وكسر الحدود وصدم الواقع بما ينفي الوحشة، ويفرش أرضية البحث وبساط التداول، ما ينتهي إلى القبول، وفي أدنى المحصِّلة الاندراج في المعقول!

ففي خضم هذا التهابط والإسفاف، وحمَّى التسابق على السقوط في النار، انتشر مؤخراً تسجيل مرئي للشيخ أحمد جنتي رئيس مجلس الخبراء، بفجٍّ أشبه بالجلاميد، وغثٍّ تمجُّه الأسماع ويشنؤه كلُّ سويٍّ سليم، يستنطق فيه لسان حال السيد الخميني، يفترض له مقولة أو وصية تنادي بـ “إني تارك فيكم الثقلين”، “الثقل الأول هو الإمام الخامنئي الذي هو عليُّ زماننا، والثقل الثاني هو النظام والحكومة الإسلامية”! وبينما كانت الساحة في ذهولٍ حمَلها على التثبت من صحة التسجيل، وحقيقة النسبة وعدم التلفيق والتركيب، تلقت صفعة مدوِّية وخبطة قاضية من كاظم صدِّيقي إمام جمعة طهران، لبَطها ورمح بها وهو في معرض بيانه كيفية صناعة القرار الذي يحقِّق الإنتصار، قال: “إن الكلمة الأولى في رأس الهرم تصدر عن القائد، الذي ينفعل ويلتئم (يغلي ويضطرم)، فهو له حضوره وله علمه وله معرفته، ولكنه ليس هو! إنه الله الذي تجلى في وجوده”!.. والأمر كما هو بيِّن جلي، لا كناية ولا استعارة، ولا تشبيه ولا تمثيل، إنه بوضوح تام قول بالحلول! والجرح يسكنه الذي هو آلم، فإذا كان الخامنئي هو الله تعالى، فأي ضير أن يكون القرآن الكريم هو حكومة ظلم وفساد وضلال، وأي بأس أن تقرن العترة الطاهرة بهذه النظائر وتنحدر لتقاس بسلطان جائر!

ويأتي هذا القول الشنيع والإفك المريع في سياقٍ باتت الحركة الإسلامية ونهجها الحداثوي التنويري تعيشه من جمود غير مسبوق للعقل، واستلاب مهين للفكر، ناهيك بانعدام الإرادة والقرار، وتسيير آليٍّ ما عاد له نظير حتى في الصين، اللهم إلا في كوريا الشمالية، وهنا كما هناك، عبادة مخجلة للشخص وتقديس وثني للرمز، وصنمية تتخطى البوذية وتفوق الهندوسية!

والأمر وإن كان سابقة في التشيُّع، أن تتهاوى المفاهيم وتتحلل الأسماء والألقاب، وتهتك الحدود وتتداخل، فهو ليس وليد يومه ولا ابن ساعته، ولا بدعاً في تاريخ الحكَّام، ولا هي أول قارورة تكسر في الإسلام! فالصديق والفاروق، والأخطر أميرالمؤمنين، هي ألقاب علي عليه السلام وأُطلقت على غيره. وإن توقف هذا النهج بعض الشيء في العصر الأموي، لما يبدو من عزم على مسخ الأصل وتغيير الجسم، ما ينفي الحاجة لخلع الأثواب ولبس الألقاب! فإنه عاد بزخمه الأول في العصر العباسي، واستمر ليمتد حتى الفاطمي والأيوبي والأموي الأندلسي… وها هو يعود بأقبح صوره وأبشع أشكاله في العهد الخامنئي!

ويبدو أن تناسباً عكسياً يحكم الغلو والتمادي في هذه الإطلاقات، فكلما استشعرت البطانة في قائدها مزيد جهل وصغار وضعف وهوان، عمدت إلى المبالغة والإسراف في الألقاب، عسى أن تمحى الصورة من الواقع وتزول من النفس على السواء.

من هنا، لمَّا كان مكمن العقدة عند بني العباس هو البيت العلوي النبوي، تراهم عمدوا إلى ألقابهم وكناهم، فأطلق محمد بن علي بن عبدالله بن العباس السفاح على نفسه المرتضى، وتسمَّى محمد ابن المنصور بالمهدي، وابنه موسى بالهادي، ثم جاء الرشيد والأمين والمأمون، والمعتصم والواثق والمتوكل، والمنتصر والمستعين والمعتز، والمهتدي والمعتمد والمعتضد، والمقتدر والمرتضى والقاهر… وراحت تترى الألقاب والصفات وكلُّها بالله، الذي يُقتل أولياؤه على أيديهم، ويُزجُّ بهم في سجونهم! ولما جاءت الدولة الفاطمية الإسماعيلية كان المهدي والقائم بأمر الله، والمنصور بنصر الله، والمعز لدين الله، والعزيز بالله، والحاكم بأمر الله، والظاهر لإعزاز دين الله، والمستنصر بالله، والمستعلي بالله، والآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والظافر بأمر الله، والفائز بأمر الله، والعاضد لدين الله… وهكذا فعل الأيوبيون والمماليك والأمويون في الأندلس، حتى أنشد الشاعر:

ومما يُزهدني في أرض أندلس @ أسماء معتمد فيها ومعتضد

أسماء مملكة في غير موضعها @ كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وهذه وتلك كما ترى، تبقى في حدود ونطاق لا يترتب عليه في ظاهر الأمر والحكم كفر أو زندقة، ولهم أن يعزوه إلى التيمُّن والتفاؤل والرجاء، وعناوين أخرى تزينها لهم شياطينهم… ولكن ما يجري في الدولة الخامنئية، على صعيد الحكومة والقاعدة، والمؤسسات والأحزاب، فهو شيء آخر يقرب من المسِّ والجنون ولوثة واختبال.

وقد اعتمدتُ ما صدر من أعلام القوم كالسيد نصرالله والشيخ جنتي والشيخ صدِّيقي، أما ما أوكلوه لعوامهم، وما يجري على يد قاعدتهم، ولا سيما جيشهم الألكتروني، فمن الكفر البواح، والزندقة التي لا يتردد فيها مؤمن مهما احتاط وتورَّع، والتمس محامل الخير والبراءة.

لم يحدِّثنا تاريخ الأديان عن مثل هذا الطغيان، من غير طبقة النمرود “أنا أحيي وأميت”، وفرعون: “أنا ربكم الأعلى”!.. وإن أحسن بعضهم الظن في الخامنئي ورأى أنه لا يحسب نفسه رباً ولا يقول بالحلول، ولكنه كما يبدو من قرائن وشواهد، يرى لنفسه ودولته مقام الثقلين، ولا يرى ما هرف به الجنتي شططاً..

بالأمس بادرني أحد العرفاء الكمَّل، الذي طالما استبق برؤيته النافذة الحوادث ووقائع الأيام، وقرأ ببصيرته خارطة طريق النجاة والفلاح، كنت أشكو إليه قبل حين ما يفعلون بالمذهب والدين، فقال: أرأيت كيف فعل ربك بالمستكبرين؟ أرأيت عاقبة الجرأة على سيد الشهداء، وجزاء محاربة شعائر عزاء الحسين. إن هذا التمادي والوقوع في الكفر، هو علامة الخروج من حول الله وحفظه، والدخول في حولهم وقوتهم. وهو أقصى قصاصٌ يمكن أن ينزل بهم، وأشد عذاب استُدرجوا إليه ووقعوا فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

حتى لا يخرب الحزب بيته بيده

كنت في مكتب أحد المراجع العظام في قم، عندما لاحظت بعض اضطراب بين العاملين هناك، سألت عن الأمر، فتبين أن أحدهم رصد عبارة ملتبسة في كتاب للمرجع الكبير، قد يُنتزع منها ما ينال من الشعائر الحسينية، وينتقص ـ بنحو ـ من مكانتها.. وكانوا يتحاورون في كيفية استدراك ذلك، هل عليهم أن يصدروا بياناً، أم يوجهوا سؤالاً وينظِّموا استفتاءً ليُنشر جوابه ويعالج القضية؟.. كنت أراقب الوضع سعيداً مغتبطاً، حامداً شاكراً، أن رئاسة المذهب في أيد أمينة، كلُّها حرص على تصحيح خطأ وقع واستدراك زلة عرضت، ولا أنفي هنا التفاوت في علل الحرص ومنشئه بين المرجع نفسه، الذي كان يخاف ربه ويرقب إمام زمانه، وبين ابنه أو الحاشية القلقة من التأثير السلبي على شعبيته، واستغلال الأعداء ذلك لتشويه صورته والنيل من مكانته.

وفي مشهد مقارب، حكى آية الله السيد حسن فقيه إمامي (في تسجيل مصوَّر) أنه أخبر السيد الخميني قدس سره ـ إبان وجوده في النجف الأشرف ـ عن كتاب نُشر في أصفهان، نسب إليه تحريم جملة من الشعائر الحسينية كاللطم والزنجيل والتطبير، وكيف ظهرت عليه ـ وهو يتلقى الخبر ـ آثار الحزن والاستياء، وأنه سأل مستنكراً: “إليَّ أنا نُسب ذلك؟ ثم طلب إليه بأن يكذِّب تلك الدعوى. ولم يكتف ولا سكن حتى استدعاه ثانية وكرَّر عليه السؤال والطلب وقال: “كذِّبوه، كذِّبوه“.

تذكرت الواقعتين وأنا ألحظ تصرفات قيادة حزب الله وقاعدته (على السواء، فقد اختلط الكبار بالصغار، والتحق الأطفال بالرجال، فما عاد هنا حكيم يُرجى ولا بصير يُخاطَب، والقلة الولائية مضطهدة، مراقبة ومترقبة، تلتمس لنفسها مخرجاً وتبحث عن منجى يدرأ الضغوط والحصار، وما زالت الساحة ترتقب حراًيهمز فرسه وينكزها، ليخرج من هذا المعسكر إلى الجنة، وهو يردد: والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطِّعت وحُرِّقت!) على الصعيد العقائدي والديني، والمسار الإعلامي والنهج التبليغي الذي اتخذه هذا الحزب، وما يمكن وصفه، دون تجنٍّ أو مبالغة، بالأرعن الأهوج!

فبعد خليط الثقافة العلمانية والفكر الزيدي الذي وقعوا فيه وصاروا يروِّجون له منذ أمد، وآلية الفرقة والفتنة وشق عصا الشيعة بمقولاتحسيننا وحسينكم، زينبنا وزينبكم، وبعد دورهم في محاربة الشعائر الحسينية الذي ما انفكوا يمارسونه منذ سنوات.. عمدوا مؤخراً لخطاب الغلاة وحكوا مسلكهم في النداء على وليهم، وأوغلوا في: “الخامنئي هو حسين العصر، وما أدخل الساحة في نزاع وصراع لن ينتهي إلا على دمار وهلاك، دنيوي يسبق الأخروي، ويفتح الباب على سفاهة ووقاحة أخذت السفلة والجهلة إلىنحن نريد أن ندخله فصلاً في الأذان، وأنتم تستكثرون إطلاق الحسين عليه“!؟ وإنه معصوم وهو الإمام الثالث عشر، والخامنئي هو مصباح الهدى وسفينة النجاة“… وما يمضي على نسق هذا المجون والجنون.

من المشهود الملموس والواضح الجلي أن لا تربية هنا ولا أخلاق، لا تهذيب ولا تزكية، بل نزق وطيش وغطرسة، تستخف بمقدسات الدين وتتحدَّى مشاعر الملايين، جاء من طغيان القوة وغشَم السلاح، أخذ القوم إلى التباهي والاستعلاء فالبطر والبغي والإفساد، وسيمضي بهم إلى تيه وضياع، ويفضي إلى تداعي البنيان بعد أن هدُّوا بأنفسهم أعمدته، وسقوط الكيان بعد أن قوَّضوا بأيديهم ركائزه!

والحق أنَّ الساحة في ذهول من هذا الطيش والغرور، وكيف بلغ الأمر هذا الحد من الغطرسة والاختيال، والتجبُّر والخيلاء الذي لا يحسب لشيءيهتكون ضرورات المذهب ومسلَّمات الدين فلا يبالون، ويزرون بقيم الإيمان وكرامة المؤمنين ولا يكترثون، فخصمهم أعزل لا صواريخ يملك ولا سلاح يحمل، ولا خلايا أمنية ترهب وترعب! وإلا للزموا حدودهم ووقفوا عندالآخروحرمته، كما يفعلون مع المسيحيين والدروز والسنة وغيرهم؟! وهذا من غريب الغفلة ومُستدرج السبات، الذي أنساهم حالهم في حرب 2006 حين زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، ولم يبق لهم من ناصر ومعين وملجأ ومغيث إلا بيئتهم الطائفية وحاضنتهم المذهبية، من الذين يعيبون عليهم اليوم البكاء على سيد الشهداء ويستهزئون بمعتقداتهم ويستبيحون مقدساتهم!

دع عنك الآخرة والقيامة والحساب والعقاب، ألا يخشى الحزب أن ينفضَّ الناس من حوله لهذه الغلظة والفظاظة؟ أم تراه يحسب أن الشيعة طوع بنانه ورهن إشارته، يقبِّح معتقداتهم ويسبُّ دينهم في رخائه، ثم يستنجد بهم في شدَّته ويلجأ إليهم في بلائه!؟ إنني أعرف من باع حُلي زوجته ليعين القوم في حرب 2006، وهو نفسه اليوم يتبرأ منهم، بل ويلعنهم لحربهم الشعائر الحسينية، وتطاولهم على الإمامة وتعديهم على سيد الشهداء باستنساخ اسمه وتكرار صورته وإسقاطها على ولي أمرهم! فالشيعة يرَوْن الخامنئي وألفاً من قبيله لا يساوون تراب نعل الحسين، واللطيف أن السيد الخامنئي نفسه يقول بذلك ويصرِّح به! لكن قومه يجهلون ويكابرون، وحزبه يعاندون ويغالون. وكل رهانهم وغاية حجتهم: قوة السلاح وعطاء الجهاد الذي يتمتعون أو يتبجحون به، ووقاحة لم يسبقهم إليها منحرف أو ضال، اللهم إلا الحبتري وفضلة الشيطان!

الحقيقة أن النخبة في الحوزة العلمية وعموم العاملين في الساحة الإيمانية، يعيشون حيرة في كيفية مواجهة هذا الجسم السقيم، وما يفرزه من دنس ويفشيه من لوث، وقد بلغ هذه الحدود من الصلف والكبر والتيه، وصار معلناً في الإضلال والتحريف، والفضلاء بين يائس من الإصلاح يراهن على حبل يلفه القوم بأيديهم على أعناقهم، ووجِل من إمهال يسبق صاعقة قاصفة، وصفعة مهدوية ناسفة، علينا أن نحذرهم منها وننقذهم قبل وقوعها، ولو بمقالة قد تبلغ آذانهم، لعلها توقظهم فتنتشلهم من الهلاك.

في سيرة بني إسرائيل أن موسى استسقى لقومه وضرب بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم، لكنهم لم يصبروا على طعام واحد، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وعثوا في الأرض مفسدين. وفي واقع أمة محمد أنه صلى الله عليه وآله خلَّف فيهم اثني عشر إماماً، لا يزيدون ولا ينقضون، لا نظير لهم ولا شبيه، سواء في ذواتهم أو أدوارهم وأعمالهمفظهر اليوم قوم يريدون أن يستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، وراحوا يبحثون عن الثريا في الثرى، ويرسمون على طَلل الماء لوحة لزعيمهم، ويخطون على رمال الساحل اسم أميرهم.. يحكون ضفادع تقبع في قعر بئر، تحسب السماء بحجم فوهته، ولا شيء وراء فمه!