“يا أهل غزة! أنتم الصيام والقيام والتهجد والسلام، أنتم الكعبة وركنها اليماني وماء زمزم والصفا، أنتم رسول الله وأهل بيته وصحابته المنتجبين، أنتم بنو هاشم محاصرون في شعب أبي طالب، أنتم معركة بدر في السابع عشر من رمضان، أنتم ليلة القدر، أنتم رسول الله محاصَر في معركة أُحد، وسيف علي بن أبي طالب يذود عنه وأبو دجانة يفتديه بروحه، أنتم ياسر وسمية يصيحون أحَدٌ أحد رغم السياط اللاهبة، أنتم مصعب بن عمير الفتى الجميل المتنعم الذي بعد إسلامه لا يستطيع أن يجد رداء يقيه من البرد، أنتم ذو الشهادتين وغسيل الملائكة، أنتم الحسين يصرخ في يوم كربلاء: ألا من ذاب يذب عن حرم رسول الله، ألا من ناصر ينصرني، لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند انتصارك فلقد أجابك سمعي ولحمي وبدني”…
هذه فقرات من خواطر سجَّلها طبيب كويتي شاب، ينتسب إلى الحركة الإسلامية ويسترشد ـ كما قيل لي ـ بالخامنئية، أُتيح له أن يشارك لأيام في بعثة طبية للهلال الأحمر الكويتي إلى غزة. والحق أني لمست فيها شيئاً من صدق المشاعر وأمانة الانفعال، وعرض رسالي هادف يسمو على الأنا وأغراض الشهرة والانتخابات والتسويق السياسي، وما إلى ذلك من الدجل والإفك الذي عهدناه في هذا التيار.
كلما طالعتك نماذج من هذا القبيل، تظهر في كتابات القوم ومداخلاتهم ومواقفهم، وتبرز في معاركهم وصراعاتهم… أدركت عظمة حديث آل محمد، وقيمة أسفار الكافي وبصائر الدرجات، وعرفت عمق كتب الاحتجاج وعيون الأخبار وبشارة المصطفى وكامل الزيارات، وتفطنت فخامة مدينة المعاجز وخطر الخصائص الحسينية وجلالة أسرار الشهادة وشرف القطرة، ووقفت على مدى الحرمان الذي يعيشه هذا الجيل بالانفصال عن هذا التراث الزاخر، والذخائر الثقافية الغنية، والمخزون العلمي الباهر الفاخر.
إنه الفقر في المعارف الإلهية، والإملاق في الروحانية الحقيقية، شظف وجدب وضنك ومحول، جعل أحدهم كقروي في المدينة، ينبهر بالمصباح الكهربائي، أو بدوي قادم من صحراء قاحلة، لم يعرف إلا الخيمة وظلال عريش من جريد النخل، أُدخل بيتاً من لبن أو حجر، فوقه سقف من خرسانة مسلحة تقي الشمس وتمنع المطر، ممهد ببلاط، مفروش ببعض أثاث ومتاع، حتى إذا رأى الماء ينحدر من صنبور ويصرف في تمديدات صحية ويدور… ذهل وأُخذ وراح يهذي، يحسب أنها الجنة وقصورها الموعودة ولا غير!
لعمري، لو اطلع المعدم وعاش فضاء الأحاديث الشريفة، لأنزل المقدَّسات منزلتها، ولا سيما أهل البيت، في ذواتهم ومكانتهم من عالم الحقائق، ومقامهم عند الله، حيث ينقطع الخطاب، ويرجع البصر خاسئاً وهو حسير. لو قرأ فعاش الفضاء الإيماني، لميَّز بين محن دروب الأرض، وبلايا أهل الدنيا، ومصائب نلقاها في طيف عابر نحسبه الحياة، وبين معارج السماء ومسالك الأولياء وآفاق تذهل عن تصورها العقول، حتى صدق القول بحصر اللفظ فيها ونفيه عن غيرها! “فهل المحن إلا التي لزمتكم، والمصائب إلا التي عمتكم، والفجايع إلا التي خصتكم، والقوارع إلا التي طرقتكم”؟! لوكان هذا الطبيب العليل ابن الحديث والثقافة الإيمانية الأصيلة، لعرف أن تلك تنزل بالقاصي والداني ويبتلى بها من هبَّ ودبَّ من الخلق، بينما هذه الأخرى، اختص بها الصفوة من أولياء الله، وقد خصَّها الله وميَّزها بعنايته، فخلَّد بعضها، في حرارتها وحياتها، فما زالت في قلوب “المؤمنين” كيوم وقعت! وبعث لأُخرى، كحصار شعب أبي طالب، معجزة في دويبة تأكل ميثاق المقاطعة!
لو نهل هذا المسكين من ثقافة الولاء، واطلع على ما كتب الفاضل الدربندي، لوقف على مكانة وتأثير تلك التضحيات في عالم التكوين، دون هذه التي أُخذ بها، فعرف أنها حملت الشمس ودفعت الكرة الأرضية إلى التباطؤ وما ناهز التوقف، حتى امتد يوم عاشوراء من شروق الشمس إلى غروبها نحو اثنين وسبعين ساعة! لو كان من أهل السبح في هذا الفضاء لعلم الفرق بين ما يجري في غزة اليوم وما جرى عام 61 في كربلاء، ولم يسمح بالمقارنة والمضاهاة! لو فتح الكافي يوماً وطالع في كتاب الحجة، وقرأ “الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير… فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات، ضلَّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلَّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرَّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلِّه، أو ينعت بكُنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد مَن يقوم مقامه ويغني غناه!”، لغلبه الخجل مما فعل.
وهكذا لو بقيت المجالس الحسينية على حالها من الصفاء والأصالة بذكر فضائل أهل البيت وتعظيم مصائبهم، والتوسل بتلاوة فضائلهم، لأنزل هذا وصحبه المقدَّسات منزلتها، ولما انجرف مؤمن وانحرف. لو أُبقي على سيرة تلاوة حديث الكساء، ولم يسمح للمتردية والنطيحة بالتشكيك في الأسانيد، لما خفي على المؤمنين أنَّ الله لم يخلق سماء مبنية ولا أرضاً مدحية ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فلكاً يسري إلا لأجل محمد وآله، ولما سمح أحد لنفسه أن يتجاسر ويتجرأ فيقول ويكتب ما كتب! أخلوا مجالس العزاء من روادها، وقلبوا منابر سيد الشهداء وشوَّهوا محتواها، وأغووا الناس باسم القرآن، كما فعل عبيد الله ابن زياد، فافتقر العوام وأفلسوا، وصاروا يقرنون قادتهم بآل محمد، وهاهم لا يرون غضاضة أن يساووهم بأهل غزة وفلسطين!
يتهالك أحدهم ويتماوت أن لا يُطلق لفظ “رمضان” على شهر رمضان، فهو من أسماء الله، التي قد تهتك وأنت تقول جاء رمضان وذهب مما يعرض للزائلين، ويتداول حديثاً شريفاً يمنع ذلك… ثم تراه يقع في هذا الخبط والخلط والهتك والهذيان، لا يُبقي حُرمة لمقدَّس من المقدسات، لا صيام ولا قيام، لا كعبة ولا مقام، لا زمزم ولا صفا، لا جهاد أصغر في بدر، ولا أكبر ليلة القدر! وما زال يحسب أنه يرقى ما طيَّب له الشيطان وحسَّن الأعوان، حتى يهتك رسول الله وأهل بيته، ويزرى بدفاع جلجلت به السماوات، واهتز من وقعه العرش، ليرعد نداء “لا فتى إلا علي”، حتى إذا استحكم فيه التعس وغلب الشقاء مزَّق كل مقدَّس ونال من سيد الشهداء، وهو يُنزله إلى مرتبة أناس لا يقرب ملايين منهم من تراب علق بحافر ذي الجناح!.. ثم لا أحد يردعه وينهاه، أو يزجره ويضربه على يده، أو حتى ينبهه وينصحه!
والبصراء الواعون يعرفون خلفية هذا التعدي، فهناك منظومة متكاملة قامت على هتك المقدسات، وما زالت ترفد ذلك من خلال: تشويه موقع العقل في المعارف الدينية / قراءة سطحية للإمامة تأخذها إلى مستويات القيادات الحزبية / إسقاط الأحاديث عبر التشكيك في أسانيدها والطعن في ثبوت صدورها.
وبعد، هذه قراءة افتراضية لمؤمن أصيل، أتيح له أن يسعف المغلوب على أمرهم في غزة، فعاش تجربة الطبيب التائه، وعاد ليسجل فيض الخاطر من مزيج اختمر بفاضل الطينة، فكتب: عندما تعجز الآلة العسكرية، ويتفوق العدو بعدته وعديده، باقتصاده وسياسته، بعلوم وتقنيات تسقط في يدك… تتكرر حملة أبرهة ويعود جبروت القوة، فلا سبيل إلا الغيب واللجأ إلى الله. ليس لكم يا أهل غزة إلا ما فعله شيبة الحمد، عبدالمطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وآله، وهذا أبوه هاشم بين ظهرانيكم، فالجؤوا إليه! افتحوا أبواب حرمه الشريف، اقصدوه بالزيارة والتقرب، تشفعوا به وتوسلوا، لوذوا به واعتصموا، لعل الله ينجيكم من هذا البلاء. لا نريد تعطيل الأسباب وإلغاء خصائص الأشياء، والتنكر لسيرها الطبيعي، ولكن عند العجز، عند البون الحضاري الشاسع الذي تسبب فيه الذين غصبوا حق آل محمد، لا سبيل لوقف الفيلة إلا طير أبابيل وحجارة من سجيل، ومقاليد هذه بيد آخرين، لا إيران ولا الإخوان المسلمين.