مقارنة بين الخامنئي والسيستاني. الحراك وفضل الله… نموذجانً

لا بدَّ في تثمين النتاج ومحاكمة الأداء، وعموم تقييم أفراد وشخصيات بهذا الحجم الكبير والدور الخطير، من رعاية أُمور وملاحقة شؤون ومراقبة تفاصيل، تتجاوز أمر الرتبة العلمية ودرجة الفقاهة والأعلمية، والتي يتفوَّق فيها السيد السيستاني بمراحل، تصنع بينه وبين الخامنئي بوناً شاسعاً، يُدرجه في طبقة دنيا… علينا دراسة المباني وملاحظة الأُسس التي ينطلق منها كلٌّ منهما في عمله القيادي ونهجه الإداري، وارتباط ذلك، بعد العلم والفقاهة والثقافة، بالعدالة والورع، وبأُمور أُخرى تفضي إلى الرشاد والسداد، والصواب والحكمة، بدرجاتها ومراتبها، من قبيل الوضع السيكولوجي، الروحية التي تحكم المرء، والخصال والملكات أو النزعات النفسية التي تغلبه وتطغى عليه.

والباحث في حال السيد السيستاني سيعاني من غموض وإبهام يلفُّ هذا الجانب من شخصيته، فطالما عاش الرجل بعيداً عن الأضواء، حتى بعد أن تبوَّأ المرجعية وأطبقت شهرته الآفاق، ما زال غامضاً في كثير من شؤون حياته الخاصة، مبهَماً في سلوكياته، مجهولاً في خصاله، وكل ما ينمُّ عن طباعه الشخصية وصفاته النفسية. ولا سيما أنه مُقِلٌّ، في القول والفعل، حتى ليرهق الباحث ويعيا من ملاحقة تلاميذه والمقربين إليه أو اللصيقين به، فلا يرشح إلا نزر يسير، لا يسمن ولا يغني من جوع… أما في الخامنئي فإن الباحث لا يتجشِّم عناءً ولا يعاني أي إعياء. فمعرفة شخصية السيد الخامنئي، والوقوف على روحيته ونفسيته بشكل تفصيلي، مبذول متيسِّر لكلِّ باحث، ولا سيما لمن حظي بمتابعة حثيثة للشأن الإيراني منذ انتصار الثورة، وتمتَّع بقراءة دقيقة في تاريخها وسيرة رجالاتها. ومن هنا تسجَّل صفات الرجل وتُذكر، فلا تُجحد ولا تُنكَر.

السيد الخامنئي رجل ملتزم جاد، مهذَّب عفيف شريف، قارئ جيد ومثقف من الطراز الأول، ولا سيما في الشعر والقصة وعموم الأدب والفن. وله إحاطة دقيقة بأدبيات حركات التحرُّر في جميع أنحاء العالم، ومعرفة بالأحزاب والتنظيمات السياسية على مختلف مشاربها. وهو ذو نزعة استبدادية تنفي الآخر وتكبته، لا يتحمَّل النقد ولا يطيق المعارضة، تحكمه ذهنية تنظيمية موغلة في التنظير، تجعله يسبح في رؤى خيالية حالمة، يصرُّ عليها ويتمسَّك بها على الرغم من الأفشال المتلاحقة، والإنكفاءات المتتالية، والإخفاقات الخانقة! وبعد، فهو غضوب مضغِن، حقود كالفيل أو الجمل، لا ينسى الإساءة، ولا يتوانى عن الانتقام مهما طال الزمان. ولو واكب أحدٌ مسيرته فترة رئاسته للجمهورية، لمَّا كان المنصب تشريفياً بروتوكولياً، والسلطة كلُّها لرئاسة الحكومة، التي تولاها ميرحسين موسوي لدورات متلاحقة، رغماً عن الخامنئي وعلى غير رغبته وإرادته في تعيين أحد أصدقائه (مصطفى ميرسليم). ومن طريف ما جرى، أن السيد الخميني كان يدعم ميرحسين موسوي (مرشح رفسنجاني)، حتى شكى إليه الخامنئي الأمر مرَّة، وقال إنَّ المهمة الوحيدة لرئيس الجمهورية في الدستور، هي ترشيح رئيس الوزراء، وما زال تيار “روحانيون”، (وهم صقور الثورة آنذاك، مقابل “روحانيت”، حمائمها)، يسلبونه هذا الحق بأكثرية مريحة يتمتعون بها في مجلس الشورى، تكفل لهم إسقاط أي مرشح آخر! يُقال أن السيد الخميني أجابه ممازحاً ومسلياً “أنت سيد، والسادة مظلومون عبر التاريخ، فتحمَّل الظلامة كما فعل أجدادك”!.. لو واكب أحَدٌ هذا الحدث وعشرات مثله، لفهم العقدة العميقة التي تركَّبت في نفسية الرجل، وأدرك سرَّ تعسُّفه برمي ميرحسين وقذفه بالخيانة العظمى! ثم إبقائه رهن الإقامة الجبرية للسنة الحادية عشرة دون محاكمة، هو والشيخ مهدي كروبي الذي لا يطيقه هو الآخر، والذي أمر به مؤخراً إلى الحبس، فأُودع زنزانة انفرادية، إثر بيان أصدره اعتراضاً على قمع الحراك الأخير، وسقوط عشرات القتلى!

وعلى أية حال، فنحن الآن أمام حالتين يمكن اتخاذهما نموذجين لتقييم الرجلين وعقد مقارنة بينهما، سواء في أدائهما، أو في حالتيهما الروحية والنفسية، الأولى: الموقف في فتنة فضل الله، والثانية: أسلوب معالجة الحراك الشعبي المعارض للحكومة واستقرار النظام.

دعَم السيد الخامنئي فضل الله دعماً كبيراً، وسانده كما لم يفعل أحدٌ ألبتة، ما بلغ أمره مقلديه في لبنان، أي حزب الله، وإلزام قاعدته حضور جماعة فضل الله والاقتداء بصلاته، ثم تحريم المسِّ به والخوض في انحرافاته، وتجنُّب البحث في الطعون التي تسقطه! ويقال أنَّ ذلك كان انتقاماً من المرجعية التي أبت الاعتراف به والانقياد لولايته، ونيلاً منها عبر هتك حكمها بضلال فضل الله، وإبطال مفاعيله التي كادت أن تنهي الفتنة وتقضي على فكر فضل الله المنحرف ونهجه الإضلالي، فالميرزا التبريزي والوحيد الخراساني، أبيا الاعتراف بفقاهة الخامنئي وأهليته، وامتنعا عن زيارته، ما أورثه الحقد ودفعه للنقمة. ويُلحِق آخرون ذلك بتوافق فكري والتقاء في الأهداف يجمع الخامنئي بفضل الله. فهما ربائب نفس المدرسة الفكرية، ويستقيان من عين المشرب الذي أسس التنوير الديني، وأرسى الحداثة الإسلامية، وابتدع الحركة الإخوانية.. ذاك من حزب الدعوة، وهذا من علي شريعتي. ناهيك بالدور الذي نهض به فضل الله، منطلقاً من قاعدة “صدم الواقع”، الأداء الذي فتح الباب لسيل متدفق من التهريج والإفساد الذي نهض به الحيدري وحب الله، ما زال يستهدف الحوزة والتراث والمعارف الأصيلة. اندفع السيد الخامنئي في الدفاع عن فضل الله واحتضان تياره، بما استغلَّه واستنزفه واعتصره حتى الرمق الأخير، فخلَّفه ورقة ملقاة في سلة المهملات، في أداء سياسي استغلالي قلَّ نظيره!

أما موقفه من الحراك الشعبي، سواء كان في لبنان أو العراق أو إيران، فهو واحد، ينطلق من انكشاف ارتباط الحراك بالمشروع الأمريكي، وقراءة أنه ورقة ضغط ومناورة ضد إيران، أو استراتيجية بديلة للأنظمة الحاكمة في هذه البلاد، التي تربطها بالجمهورية الإسلامية حالة تفاهم ووئام. وهو يرى وجوب اجتثاث الحراك وقلعه من جذوره، ويسعى لقمعه وقطف رؤوسه، أينما طالت يده ووسعت سلطته وبلغت قدرته، فعل ذلك في إيران، وما زال يحاوله في غيرها.

أما السيد السيستاني، فهو ينطلق هنا (في الحراك) وهناك (في فتنة فضل الله) من أصل واحد، يمليه خُلُقه الديني ونزعته الروحية، ويفرضه دوره الأبوي الرعوي… السيستاني يعرف جيداً من هو محرِّك الحراك، ومحيط بخلفيته وأهدافه، عالم بارتباطه بالأجندة الأمريكية للعراق، وواقف على مكانه في الصراع مع الإرادة والنفوذ الإيراني. وهو يعلم أن التعبئة الإعلامية المعادية أخذت الشارع العراقي صوب عداء الدين ورجاله ومراكزه وشعائره…

لكنه يلحظ ـ في الوقت نفسه ـ أُموراً أُخرى، منها أحقية المطالب وتقصير الدولة في توفير الخدمات وتأمين حقوق الناس، ثم فساد رجال السلطة (أبناء الحركة الإسلامية من حزب الدعوة وغيره) وضرورة محاسبتهم واستبدالهم بغيرهم من شرفاء العراق وصلحائه. والأهم الأخطر أنه يلحظ السواد الأعظم من المشاركين في الحراك، وأنهم شباب مغرَّر به مخدوع، أضنته الحاجة ودفعه الفقر وأذلَّه العوَز، فأخذته العاطفة وهاج به الغضب وغلبته الحماسة، فخرج ثائراً. وأنه ربيب ثقافة هجينة ومناهج سقيمة، زيَّنت له النزعة القومية وأذكت فيه الحميَّة والعصبية، فطاش مع الشعارات الإلحادية والمقولات الكفرية، وأغلبهم لا يفقه ما يقول! السيد السيستاني شخَّص دوره في منع هدر دماء هؤلاء، ثم الحؤول دون وقوعهم في الكفر والمروق، والخروج من دين الله وهم لا يعلمون…

وظيفة السيستاني الأولى إنقاذ النفوس ودوره الأصلي إحياؤها، وهو ما يمليه عليه كتاب الله “أنه من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”، وتفرضه سنة نبيه “يا علي! لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأنْ يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت”، الإنسان عند السيستاني قيمة عظمى، والمؤمن رعية كبرى، هو المسؤول الأول عنها. لذا بذلت المرجعية غاية وسعها، وصرفت كل جهدها، لتحتوي الحراك، لا في قيادته المأتمرة بالأجنبي والمتآمرة على الوطن وأهله ونظامه، بل بالقاعدة الشعبية المندفعة. من هنا سخَّرت العتبة الحسينية حافلاتها لنقل المتظاهرين، وأعدَّت لهم الطعام، بل حتى نظَّمت أو حثَّت هي على بعض المظاهرات التي قادها معممون من الخطباء، وتوالت خطب الجمعة مواكِبةً للحراك، ومتفاعلة مع خطواته وتطوُّراته. ما أبلغ الناهضين به في وجدانهم أن المرجعية تتحسَّس آلامهم وتتفهَّم شكواهم، وأنها معهم في إنهاء الفساد، الذي يئن منه العباد وتشكو الدولة والبلاد.

هكذا جذبت المرجعية النفوس، وروَّضت العواطف والقلوب، فألغى الحراك بعض شعاراته، وتراجع عن بعض مواقفه وخطواته، فبعد شعار “لا أربعين أو لا مشاية بعد اليوم” الذي رفعوه، أو رُفع لهم فاتبعوه، لم يمانعوا أن يوقفوا نشاطهم ويعطِّلوا مظاهراتهم، ويكفُّوا عن قطع الطرق، ريثما تنتهي زيارة الأربعين، ويقضي المؤمنون شعيرتهم المقدسة. وهكذا ما عاد الحراك ينظر إلى الحوزة والمرجعية والعمامة، جزءاً من السلطة والحكومة، وترسَّخ في نفوس المتظاهرين كما في شعاراتهم، وطال خطابهم السياسي، أنَّ الحوزة والمرجعية لا شأن لها بالحكومة وفسادها. السيستاني أب شفيق، وراع مسؤول، لا حاكم يبطش بسلطانه ويقمع بعسكره وأعوانه..

وهذا الأصل نفسه هو الذي حكم موقف السيد المرجع من فضل الله وفتنته، فهو يرى ضلاله، تماماً كما فعل العلماء، وكما صرَّح جملة من تلاميذه الأفذاذ كالسيد أحمد المددي والشيخ هادي آل راضي والإيرواني والجواهري ونجاتي، ونقل آية الله السيد علي الميلاني، بما يقطع أيَّ شك وينفي كلَّ ريب، فبعد أن أدَّى العلَمَان التبريزي والوحيد الدور الإلهي في إبطال مقولات الرجل والحكم بضلاله، ما قطع الإغواء ونفى الاغترار، اكتفى السيستاني وكفَّ، فلم يصرِّح برأيه، تاركاً فسحة للاحتواء، وفاتحاً للمغرَّر بهم نافذة العودة إلى الدين، وعدم الغرق في الضلال المبين. هكذا انتشل كثيرين كانت تتقاذفهم أمواج الحداثة، وتتناهبهم أفكار الضلال، وحرَّر عنقاً كانت تأسرهم انتماءاتهم الحزبية.

بين أبوَّة السيستاني وحكومة الخامنئي، ترتسم الحدود بين السلطة والرحمة. تتجسَّد هناك القوة والسطوة، ويظهر البطش والقسوة، وتتجلى هنا الشفقة والرأفة، ويغلب العلم وتحكم الحكمة… ومَن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

الفرق الجوهري الأخطر هنا، أن السيد السيستاني يمارس دوره بالرفق واللين، ويسعى بكل حكمة لإنقاذ المؤمنين، ويعمل على تحييدهم عن الصراعات العالمية. بينما السيد الخامنئي يريد تطبيق الدين بالقهر والقوة، وإعماله بالإرغام والإكراه، ويريد محاربة أمريكا وإسرائيل وكل ظلم على هذه البسيطة… وهذا دور المهدي الموعود حصراً! والحر تكفيه الإشارة.

التعليقات