لبنان ينادي السيستاني…

مما لا شك فيه ولا مراء، أن سهام المسؤولية عن الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، تتوجَّه إلى غرضين وترمي هدفين، سجل التاريخ التبعات السياسية والأخلاقية وألقاها عليهما: المنظمات الفلسطينية المسلحة، والمارونية السياسية بميليشياتها الانعزالية. على هذين التيارين وقع عار الخطيئة وجريرة الدمار وخزي المآسي والويلات، وليست المذابح الجماعية آخرها.

أما اليوم، إذا وقعت حربٌ أهلية ثانية، وهذي طبولها تقرع ونذُرها تترى ومقدماتها تطوى… فإن المسؤولية فيها ستتوجه إلى الشيعة! وسهام التهمة والإدانة ستنصبُّ عليهم وتنهمر وابلاً يغمرهم، أو يغمر الحزب الشيعي الأقوى الذي يمثل الامتداد الإيراني، وما يشكِّله من حرفٍ نافر ورقم نشاز أمام إرساء معادلة عالمية لشرق أوسط جديد، وتوزيع محدَث لمناطق النفوذ والهيمنة فيه، هذا ما سيسجله التاريخ إذا وقعت الكارثة لا سمح الله. وذلك بعيداً عن التقييم العادل والتحليل المنصف، فليس هذا ميدان الحقائق ولا الذي تعنيه الوقائع! وإلا، فالحقُّ أنَّ علل الحرب وذرائع تفجرها التي تقف على أبواب لبنان، تطلبه حثيثاً بطَرقات متلاحقة، بل تركله بشِدَّة لتقحمه وتلجه.. تفتعلها أذرع وترمحها أرجُل غير شيعية. ومن المعلوم الذي لا يخفى أنَّ جميع الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية، هي عميلة لدول وأجهزة مخابرات أجنبية، وأنها تلعب أدوارها على إيقاع وإيماء أسيادها، الذين يدفعون بتهوُّر لا يبالي بالبلد، ورعونة لا تكترث بالشعب، ويقودون نحو فوضى وانهيار سيفرغ حرباً جديدة. حتى الحراك الناشط كامتداد للربيع العربي، والعناصر التي تُسعر أواره، وتصعِّد وتيرة إغلاق الطرقات ورسم خطوط التقسيم المناطقي والطائفي، ومعها فضائيات تواكبها ومواقع إعلامية ومنصَّات تغذيها، كلها تمتثل أوامر وتعليمات تأتيها من سفارات ودوائر مخابرات قوى عظمى أو إقليمية، تريد إنهاء الامتداد الإيراني وقطع يده المتمثلة في الوجود الشيعي القوي بأي ثمن، وإن كان الحرب… لكن التاريخ سيتغافل عن هذا كلِّه، وسيكتب ما يمليه الأقوياء ويريده الطغاة، وكان ـ على مداه ـ يطري الزيف ويثني على الباطل ويزخرف الكذب ويعظِّم الحقير، ويتجاهل الحقائق ويهمل العظائم، يسجِّل عهد هارون الرشيد عصراً ذهبياً للحضارة الإسلامية، ولا يذكر شيئاً عن سجن إمام عصره وحجة زمانه موسى بن جعفر عليه السلام، حتى يحاججك تافه خاضع لإملاءاته، بأن عليك الخروج من قوقعة الأنا والذات الضيقة، والنظر للإنجاز الحضاري والموقع الذي تحقق للأمة الإسلامية في زمانه (تماماً كما يسوِّغون اليوم للسكوت عن هتك الدين ومعالمه واستباحة مقدساته لصالح الإنجاز السياسي والعسكري)! وما زال صلاح الدين الأيوبي مبجَّلاً معظَّماً، تؤلف في أمجاده الكتب، وتُصنع الأفلام السينمائية، وتطمس حقيقة جرائمه ولا تذكر خياناته!

ليست المأساة في البطالة وانهيار العملة وسقوط المنظومة التجارية بعد الاقتصادية، وانقطاع الكهرباء ونفاذ وقود السيارات وتفشِّي الوباء واستحكام الفقر، وإن كان خطراً يناهز الكفر، وميداناً ينبغي أن تشهر فيه السيوف وتخاض المعارك.. لكن الخطاب المثالي والصيغة النموذجية تقرأ ذلك شأناً وطبيعة للحياة الدنيا وسيرة المستضعفين الموعودين بوراثتها في نهايتها. ولا سيما أنَّ الفقر بات قدر سائر البلاد وكافة الشعوب، بعد أن عزمت حكومة العالم الخفية ـ كما تحكي المؤشرات ـ أن تعيد بُنية الدول والمجتمعات على أصلي: الغنى والفقر، بما يقلِّص أو يلغي “الطبقة المتوسطة”. فالظاهر أنهم ما عادوا يطيقون نماء وتوسُّع هذه الشريحة لتكون الغالبة، لا في الشعوب والمجتمعات ولا في الدول والحكومات، والمشهد العالمي القادم الذي يعدُّون له، لن ترى فيه إلا بلاداً غنية متسلِّطة، وأخرى فقيرة مغلوبة على أمرها، ولا محل فيه لدول نامية طموحة متطلِّعة وثَّابة، ولا لطبقة اجتماعية وسطى تتوفر لها سائر الخدمات وتؤمَّن كافة الحاجات في حدٍّ متوسط يخرجها من الفقر والعوَز، وإن لم يبلغ بها الرفاه والرخاء، فتتطلَّع للمزيد وتطمح إلى الغنى والثراء، ومنافسة المستأثرين “الكبار”!.. لا أدري أمن فرط جشع ونزعة استئثار، عبر صيغة تحتال على شحِّ الموارد باحتكارها لخاصة طبقتهم؟! أم هو الطغيان والاستكبار الذي يلتذ بامتهان الناس وتعميق الهوَّة التي تفصلهم عن “العامة”، ويلزم ارتهانهم في الفقر وإشغالهم بتحصيل ما يسدُّ رمَقهم، ويصرفهم عن التطلُّع إلى عروش ومقامات “أسيادهم”؟! أم هو الخوف من استنساخ حالة المارد أو التنين الصيني الذي بنى شعباً شبِعاً، تمدَّدت فيه الطبقة الوسطى لتكون الكبرى، وتتحول من عامل معيق (بفقره) إلى رافد فاعل، كما هي في أوروبا، قلَب موازين الاقتصاد العالمي، فغدت الصين الرقم الأكبر في المعادلة الحاكمة اليوم، والقوة العظمى التي تعيد حالة “القطبين”!

إنما البحث فيما يُخرج الشيعة من هذه التهمة، وينجي المذهب من هذه الفرية، فإنَّ التاريخ لم يسجل على الشيعة وجودهم في موقع المعتدي يوماً، وهذا الذي يُحاك وينسج ليتلبَّسهم، ثوب لم يعرفوه في تاريخهم، فهم لم يكونوا يوماً سبباً في دمار بلادهم ولا هدم مجتمعاتهم، وطالما تحمَّلوا الويلات وقاسوا المحن والبلاءات ودفعوا الأثمان لصالح الوحدة والسلم والوفاق والوئام… وإذا كان وهن المذهب وسقوطه في نظر الآخر خطراً، علينا أن نحسب له وندفعه عن ديننا، وكان لتردي سمعته وسوء صيته موضوعية شرعية، فلعمري، إنَّ هذا الأداء الذي يستعدي العالم أجمع، ويحمله على التنفر من الشيعة وكُره رسالتهم، هو الذي يجب أن يتوقف ويُحجر على أصحابه والقائلين به، لا البكاء واللطم والجزع في الشعائر الحسينية!

وبعد خطر وهن المذهب وتشويهه.. هناك المأزق الذي تورَّطت فيه الجماعة وجرَّته على قومها، ثم التبعات التي سيُلزِمون بها الطائفة وستدفعه الأجيال القادمة من أحفادنا، الذين قد لا تخدمهم الظروف كما خدمت الحزب، فيحاصرون ويغدر بهم الزمان، كما فعل بأسلافهم، وما زال يلقاهم به منذ مئات السنين!

إن صيغة حزب الله، تحت أي مسمى طُرحت وفي أي قالب مرِن صُبَّت وسوِّقت، ليست محمولة ولا قابلة للهضم والعيش المشترك مع الآخر، لا السني ولا المسيحي ولا حتى الشيعي، لا في لبنان ولا أي بلد عربي آخر، ولعل الوقائع المستجدة تهتف بأنها سقطت حتى في إيران! هذه حقيقة يعيها الواعون وتدركها النخب الشيعية من شتى التوجهات، حتى بعض قيادات الحزب، ويعلمون أن الأجواء الإعلامية والفضاء المثالي الذي ينظِّر للتمهيد لدولة المهدي المنتظر، هي تلقينات طوباوية وتلفيقات سمجة، تفرز عند التطبيق ومحاكاة الواقع مفارقات صارخة!

على حزب الله أن يفهم ويدرك أنَّ الجهاد المشروع في زمن الغيبة هو الدفاعي الذي يرد العدوان فحسب، لا المتطلع إلى تطهير الأرض من رجس الظلم والاستكبار، والطامح لتحقيق حكومة العدل الإلهي في بقاع الأرض، وتحرير القدس من براثن الصهيونية، وباقي المقدسات من سلطات الجور، وأنَّ هذا الخطير الجلل هو دور الإمام المهدي فحسب، وأنَّ النصر المرجو والفرج المنتظر لأهل الحق سيكون على يديه حصراً.

وعليه أن يرجع ويكفَّ عن إهماله العمل بأشرف الفرائض، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بات فريضة مهجورة في قاموسه، ما ترك البلاد خراباً والدولة مرتعاً للفساد والشعب في ضلال، وهو يعظِّم أهل البدع، ويوالي المنحرفين، ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فصار الناس يخرجون من دين الله أفواجاً، وكاد الفقر أن يكون كفراً.

على الحزب أن يترجَّل عن صهوة غروره وطغيانه، ويعي أنَّ ما ينادي به ويرفعه شعاراً، أعجز أولياء الله من الأنبياء إلى الأئمة الأطهار! فادخروا له ولدهم ووارثهم الحجة بن الحسن صلوات الله عليه، وبشَّروا به وبالفتح والظفر والفرج القادم على يديه بقول أميرالمؤمنين: “لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”.. وأن الحلَّ والعلاج ليس في مزيد مكابرة وعناد، ومعارك وحروب وانتصارات موهومة، تدغدغ مشاعر العوام، وتبعث حماسة الذين لا يرون أبعد من أنوفهم.. بل هو في وقفة صدق تعترف بالعجز وتقرُّ بالفشل، وتوقف التخبط الذي ينحدر بالأمة ويسقطها في هوَّة سحيقة ستطول معاناتها في الخروج منها والتعافي من تبعاتها. عليه أن يدرك ويعترف أنه بحاجة إلى قيادة حكيمة بصيرة قادرة على إخراجه، وإخراج الطائفة من المأزق التاريخي الذي ينتظرها إن لم تبادر إليه…

إن السيد السيستاني هو المخلِّص الوحيد المتاح أمام حزب الله والشعب اللبناني، وللحزب أن ينظر في مراحل قيادته ـ دام ظله ـ للساحة العراقية ليستخلص العبرة والدرس، ويعود بالذاكرة إلى صوابية قراراته التي كانوا يعيبونها ويرمونها بالخيانة والعمالة! من رأيه في شكل وطبيعة المقاومة، وأنها يجب أن تكون سلبية تتمثل بالمقاطعة دون الجهاد المسلَّح، إلى إصراره على تدوين الدستور والاستفتاء عليه، والنضال لإرساء مؤسسات الدولة، وطي صفحة “مجلس الحكم”، إلى الحرص على إجراء الانتخابات النيابية وتشكيل مجلس شعب يختار حكومة، حتى فتواه التاريخية بالجهاد ضد الإرهاب التكفيري وإنقاذه البلد من السقوط والنظام من الانهيار، وقطعه طريق العودة على البعث وورثة صدام!.. فعل السيستاني ذلك كله دون أجهزة مخابرات تقمع خصومه وتفصله عن شعبه، وبلا ميزانية تهدر المليارات من بيت مال المسلمين، ودون أن تعلَق بعباءته وصمة عار واحدة من لوث الفساد أو الاتجار بالمقدرات أو استرخاص الدماء.. لم يبع السيستاني أو يتنازل عن ثوابت الدين مثقال ذرة، ولا فرَّط بأحكامه قيد أنملة، أو تراجع عن عموم مبادئه مقدار شعرة، مضى في أدائه السياسي وهو في صميم الدين (ولم يقلب الدين ليتوافق مع سياسته!)، ورسم الصورة الأتم للمذهب، وحقَّق أمر الصادق عليه السلام: “كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا”.. هكذا فرض السيد نفسه رقماً أعجز القوى العظمى فرضخت له واستسلمت، وأذعنت لإرادته واعترفت بقيادته.

هذا ما يحتاجه الشيعة في لبنان لخلاصهم، وهم يعلمون جيداً أنه حين يخرجهم من المأزق ويقودهم إلى الخلاص، لن يكشفهم عزلاً أمام العدو الإسرائيلي ولا غيره، ولن يسمح أن يسجَّل تنازلهم ضعفاً وهواناً، بل سيحفظ كرامتهم ويرسخ عزَّتهم… ولك أن تقول إنَّ الحاجة إلى السيستاني، هي صرخة وجدان جميع اللبنانيين الأحرار، شيعة وسنة ودروز وموارنة وأرثوذكس، الذين يبحثون جميعاً عن منجى ويتلهفون لمخرج يعيد لهم الاستقرار والأمان، بل هو ما سيقبله وينزل عليه بعد المسيحي والسني، الأمريكي والفرنسي والروسي، ولا يطيق أحد أن يعارضه ويخالفه حتى الوهابي… نعم، سينزعج الإيراني!

بعد مئة عام من عزل العراق

بعد مئة عام من العزل السياسي والعقاب الاستعماري، بكل الويلات التي لازمته والنكبات التي صاحبته، يبدو أن المقادير تتهيأ الآن والأسباب تنتظم ليعود عراق العتبات المقدسة إلى موقعه الصحيح، ويتسنَّم مكانته المستحقة، المستمَدة من تراثه وطبيعته وسكَّانه: جوهرة تاج الإسلام، وواسطة عقد التشيُّع، ونظام قلادة الفخر والعزِّ والكرامة.

والقضية تعود إلى نحو قرن مضى، في حدود عام ١٩١٨، حين وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها على معاهدة سايكس بيكو، التي تقاسم من خلالها الحلفاء الحصص، ووزعوا مناطق النفوذ من تركة الخلافة العثمانية المنهارة، ورسموا خارطة جديدة للشرق الأوسط، تكفل دوام نفوذهم وهيمنتهم،،، ويبدو أن “الخارطة” التي كان يُعدُّ لها ويجري تحضيرها منذ سنوات قبل إقرارها واعتمادها ثم تطبيقها، طالها التغيير والتعديل مرات عدَّة لأسباب مختلفة، منها الثورة البلشيفية التي أسقطت القيصرية وجاءت بالشيوعية، فقلَّصت حصَّة الروس، وحرمتهم حلمهم القديم في المياه الدافئة. ومنها ثورة العشرين في العراق، التي أزاحت القلم وأدارت الخطوط، لترسم واقعاً يتجاهل الأغلبية الشيعية لسكان البلاد، ويمنح حكم العراق للإخوة السنة! كثمن يجب أن يتحمَّله الشيعة بسبب ثورتهم وما نال بريطانيا العظمى منها،، وما برح الشيعة يدفعون الثمن ويتحمَّلون العقاب منذ مئة عام! ولم يقتصر الأثر على العراق فحسب، بل يقال أنه طال الشيعة في بلاد أخرى كالبحرين وخوزستان الشيخ خزعل وغيرها، ولم يُستثن من ذلك إلا إيران، لتمرُّس الحكم الشيعي فيها وتناغمه مع الهوية الراسخة للشعب، ما خلق جذوراً ضاربة في العمق، لا يمكن اقتلاعها، ثم لتعهُّد أُخذ على “رضا خان” بمسخ الهوية الدينية وطمسها، في حالة شبيهة بما تعهد به كمال أتاتورك في تركيا. كان الإنكليز في حيرة شديدة بلغت الذهول من موقف الشيعة في الدفاع عن دولة (العثمانية) طالما ناصبتهم العداء، وأمعنت في ظلمهم واضطهادهم، وأسرفت في التنكيل بهم، لكنهم أبوا إلا نصرتها والدفاع عنها تحت عنوان الحكم الشرعي الذي يقدِّم السلطان المسلم، على المستعمر الكافر!

بعد مئة عام من النوائب والكوارث، والصروف والقوارع، شاءت الأقدار لطغيان صدام وحماقته، أن يندفع في لحظة سُكر وغطرسة أعمته عن أي فطنة ونأت به عن كلِّ كياسة، ليغزو الكويت، ويقدح بيده شرارة حريق لم تخمد نيرانه إلا على إسقاط النظام البعثي، والإفساح لحكم شعبي أكثري، سيكون ـ لا محالة ـ شيعياً،،، وهذا ما تحقق ووقع، ففي غفلة من الزمن، وخلسة كأنها باغتت القاصي والداني، حلَّ “بديل” شيعي كنظام جديد يحكم العراق، لكنه كان ضعيفاً هزيلاً مترنحاً، ما فتئت الضربات تتلاحق عليه، فيعثر في مطب ويسقط في حفرة ويهوي من جرف، من التنافس والتجاذب الحزبي، إلى الفوضى الإدارية والفساد المالي والنهب الهمجي، إلى الفصل السابع والولاية الدولية التي تقلِّص السلطة وتحول دون بسطها، إلى داعش والإرهاب التكفيري، وهو فصل الختام الذي أُعدَّ كخشبة “خلاص” يُصلب عليها هذا “البديل”، وكأن المحيط تسالم على اعتباره طارئاً “مؤقتاً”، ويعود الحال بعد حين إلى نظام سني علماني يلتقي عليه التوافق الإقليمي مع القرار الدولي، ليستقر العراق عنده وتنتهي الاضطرابات السياسية والأمنية…

وفي المقابل، كانت المرجعية هي الأب الراعي لهذا النظام الفتي والحكم الناشئ، والطبيب المعالج لأمراضه وآفاته، والمرشد الحكيم الآخذ بيده والمقيل عثراته، والعضد المغيث الذي ما انفك يُنجده وينقذه! يشدُّ من أزره في الأزمات، ويسند خوَره ويقوِّم أوَده في الملمَّات، ويحكم تضعضع مفاصله ويُنبت مخضود شوكه ويجبر مفلول عزمه، ويستر على مهلهل ثوبه، ويداري عريه، يخلع عليه ويلبسه حُلَّة الدستور، ويمنحه بأس الانتخابات وقوة التمثيل النيابي، ويضفي عليه مشروعية قانونية تغرس قدمه في أرض السلطة وتثبِّته كنظام ودولة.. وما زال المرجع الأعلى في هذا، يرعى الدولة ويدفع عنها ويحميها، حتى جاءت الفتوى التاريخية بجهاد داعش، لينهض الشعب وتُرفع راية الحق، تنتشل الدولة من الانهيار الذي كانت تترنح على شُرُفه، والعالم ينتظر بين ساعة وأُخرى إعلان سقوط بغداد!

هكذا مضى الأمر حتى وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم… ليأخذ السيد السيستاني الدولة العراقية ويدخلها في طور جديد، ومرحلة تشكل منعطفاً تاريخياً، ينتقل بالعراق إلى عهد غير مسبوق من النصر والظفر والفتح والاستقرار والأمن والرفاه، لا يصلح لها عنوان أكثر من قوله تعالى: “اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ”…

إن زيارة البابا تحمل معطيات وتخترن نتائج سوف تظهر تباعاً وتنكشف للملإ بالتدريج.. إن أمر القيادة الروحية والزعامة الدينية وحسمها لصالح السيد السيستاني ومرجعيته، صفحة طويت وكأنها تحصيل حاصل، فرغ منها الشيعة وانتهى الأمر فيها وتم، لصالح اعتراف دولي شيعي سني مسيحي، وعلمي سياسي ديني، يمتثل بين يدي السيد ويلقي القياد لزعامته الروحية ودوره القيادي.

وها هو الفتح ونصر الله الأكبر يلحق في تكريس العراق في نظام حُكمه بلداً شيعياً، يحتضن باقي الطوائف والأديان في تواد وتراحم ومحبة ووئام. إن الزيارة البابوية تعني فيما تعني النزول والاعتراف بالهوية المذهبية الجديدة للنظام العراقي، وتحمل إشعاراً على توافق دولي وتسالم عالمي ينهي النزاع ويحسم الخلاف على هذا الصعيد لصالح هذا الخيار. إن المُعطى الاستراتيجي الأخطر الذي يخلص من زيارة البابا للمرجع الأعلى، هو تحديد الهوية المذهبية للنظام ولشخص الحاكم في العراق، وأن ذلك بات أمراً نهائياً ومحسوماً لصالح الشيعة.

والقلوب تتوجه من بعد، والآمال تنعقد وترجو، أن يلحق ذلك، نجاة إيران من الحصار وتخليصها من البلاء، والعمل على بنائها أو الإخلاء أمامها لتبنى دولة قوية ناجحة، وبلداً آمناً مزدهراً، وشعباً عزيزاً كريماً، ينتخب قيادته بحُرية، ويختار دولته التي يرتضي، ونظام الحكم الذي يصلح حاله ويحقق له الأمن والرخاء، في كنف العدالة وظل رعاية الشريعة الغراء.

كثيرة هي البطولات والحماسات، ولكن الانجازات قليلة، قد يُظهر المؤمن بأساً وبسالة وشكيمة، ويسطر ملاحم عظيمة، ويسجِّل إقداماً وتضحية، ولكنه لن يحقق إنجازات جليلة، ولا نجاحاً ملموساً وفلاحاً مشهوداً، إلا إذا عمل تحت راية تمثل امتداداً للولي الحق، وفي طول قناة الفيض الإلهي وقطبها الحجة بن الحسن صلوات الله عليه… لا شك أن لجماعة إيران تضحياتهم وبطولاتهم، ولكن أين هي إنجازاتهم؟! لن تجد شيئاً على هذا الصعيد، إلا “زيادة في مكروهنا وشيعتنا”، وضجيجاً يملؤون به الدنيا ويشغلون الرؤوس الفارغة والعقول القاصرة والأفهام الساذجة.. إن الإنجاز والانتصار لا يكون إلا بفضل من الله وإنعام، وعبر وليِّ الأمر حقاً، إمام العصر والزمان، والشعب العراقي ما برح معظِّماً شعائر الله وناهضاً بواجبه تجاه أئمته، عزاءً وزيارةً وخدمة وحُرمة، لا يستبدلها بمهرجانات خطابية وأناشيد وحفلات موسيقية، ولا يستبدل بهم ـ صلوات الله عليهم ـ زعامات سياسية ورموزاً ضلالية… هذا هو سر الفلاح وإكسير النجاح، والتخلي عنه هو مجلبة الإخفاق وعلَّة الفشل، وما يتردى فيه من يفعل.

ويبقى بين أولئك وهؤلاء، بين مجرَّد التضحية والبطولة، ودفع الأثمان بلا طائل ولا مردود، وبين أداء حكيم يفضي إلى النجاح والإنجاز… هناك “رجال لقصعة وثريد”، تافهون، لا عطاء وبذل، ولا نتاج ونصر، إنها مرجعية الصوَر واللقاءات والزيارات، تتقطَّع حسرة وتتلوَّع حسداً وكمداً، تبكي حظها على فوت صورة مع البابا فرنسيس، ومادة تؤلف حولها الأكاذيب وتنسج الأساطير!

البابا في النجف الأشرف

لا أظن أن الحبر الأعظم “خورخي” أو “جورجي”، يطمح أو حتى يخطر له في طيف خيال أن يخرج من زيارته النجف الأشرف بما خرج به قدوته الذي تسمَّى باسمه، “القديس فرنسيس الأسيزي”، من لقائه السلطان الأيوبي، الأخ الأكبر لصلاح الدين، الذي كان يحكم مصر وفلسطين، اللقاء الغريب المريب الذي تمخض عن السماح له بالتبشير في سائر بلاد الدولة الأيوبية، فكان قدومه إلى القدس بداية وجود وانتشار الرهبان الفرنسيسكان الذين أسسوا أدْيِرة في معظم مدن بلاد الشام، القدس ويافا وعكا وبيروت وانطاكيا وصيدا وصور وطرابلس وطرطوس، وصُرِّح لهم بفِرَق أمنية تتولى حماية أماكنهم المقدسة، أُعطيت لقب “حرَّاس الأراضي المقدسة”!.. إن بابا الفاتيكان يعلم في أيِّ زمن بتنا نعيش، ويعرف جيداً أين توجَّه ومَن قصد.

ثم إنها بالتأكيد ليست زيارة رعوية، فلا كاثوليك هناك ولا نصارى، ولا كنائس أو أديرة. وعندما تكون إلى النجف الأشرف، لا طهران القوة، عاصمة السلطة الدنيوية والقدرة الحاكمة، المتلهفة على موقع في المنظومة العالمية، يقيها خطر الإنهاء والإسقاط، ولا غيرها من العواصم العربية أو الإسلامية حيث الشيطنة الإغوائية للأكثرية… فهي إذن رحلة دينية حقيقية، سياحة في الأرض تتحرَّى ما في السماء. بهذا يكون الرجل قد أحسن الوجهة وأتقن الرمية وأصاب الهدف، لقد جاء البيت من بابه، وأتى صاحبه في محرابه.. أمَّه شخصاً وقصده موقعاً ومكاناً، رجاه في النجف الأشرف عند عليٍّ عليه السلام، أصله وموئله، وطلبه في السيستاني، نائبه وخادمه،، لذا، سيُعقد هنا أمل، ويرجى فلاح وظفر.

ودعني أترك للقارئ الكريم فسحة، ينطلق من خلالها في هذي الرحاب، ينتزع من الحدث المرتقب ما يشاء، أو ما يطاله فكره وتبلغه فطنته وتأخذه عقيدته… وليترك لي أن أفعل!

سينكشف لـ “خورخي ماريو بيرجوليو” (البابا فرنسيس) في النجف الأشرف “السر”، ولعلَّه سيوافيه هناك ويتلقاه، إذا أخلص في روحانيته، وصدق في “مسيحيته” أو “نصرانيته”، فكان حقاً من أنصار عيسى إلى الله. سيقف بالحسِّ بعد الروح، بما ينفي كلَّ ريب في نفسه وشك، على الموقع اللاهوتي الأعظم في الأرض، بل في الوجود. ومن خلال النيابة العامة التي سيلتقيها، سوف يتعرَّف على الناحية المقدسة التي تدير الكون والمكان، وتتحكَّم بالأفلاك والأجرام، وسيُصدَم من حجم القوة والجبروت الذي يملكه قطب رحى الوجود، وكيف يخلي لغيره ويغضي عنه ويتركه يستولي على ملكه ويعبث في مملكته! وما سيعقد منه اللسان ويسلب الجنان ويتركه في حيرة وذهول، أن يقف على العلَّة في ذلك، وهي أنه صلوات الله عليه يفضِّل رداء العبودية والتذلل للباري عزَّ وجل، فلا يعمد لإعمال قدراته وتوظيف ولايته، إلا بما يُبقي المسيرة الروحانية في مسارها، حتى يلاقيها في ميعادها المرتقب ويحقق وعدها المنتظر، مِنَّة من الله تعالى وفضلاً، ونزولاً على أمره وعملاً بإذنه وتسليماً لأمره. لا يتبرَّم ولا يشكو، ولا يضجر من الانقطاع والخلوة، ولا يستوحش من الوحدة والجفوة.

في النجف الأشرف، سيصعق الرجل بطيف، ولربما بحزمة من النور الذي تجلى لموسى في الطور، وإذا أحسن المضي على درب جُلجلته، يجر خطاه ويتنكَّب آلامه، متحملاً غضب المستبدين المستأثرين، وسياط الوثنيين الملحدين، وحجارة الجهلة المتعصبين،، وعاد مستسلماً لفطرته موافياً لإنسانيته، ثم بسط ذراعيه للصلب… فإنه سيتلقى، بل يغرق، في بحر الرحمة، ويتقلَّب في أطباق الفضل الإلهي، ويعرج في السماء ما شاء، ويرقى ليوافي “يسوع ربه”، يخبره إن أقصى أمانيه أن يصلي يوماً خلفه، وأنه ما كُرِّم بالعروج والبقاء حياً إلا ليحظى بشرف الانتظار، وليكتوي بلوعة الفراق والحرمان، وأن ليس لأُمه العذراء من فخر يفوق أنها وصيفة أُمه الزهراء، خدمت في ميلادها، وامتثلت قابلة بين يدي خديجة الكبرى مع سيدات نساء عوالمهن، ليشرفن بخدمة ميلاد سيدة نساء العالمين من الأولين والآخربن… ثم يهمس في أذنه:”إنه يا جورجي معشوق الوجود، لا يوسف زليخا ولا مفقود يعقوب، وهو قبلة الأكوان وقلب عالم الإمكان، لا قدس الأقداس ولا حتى البيت المعمور”.

أمام البابا فرنسيس في النجف الأشرف فرصة تاريخية للخلاص، وأن يؤتى أجره، من رأفة ورحمة في قلبه، برجاء أن تغلب رقَّته روحانية ابتدعوها ما كُتبت عليهم، ولا رعوها حق رعايتها، وسيسمع من سليل الرسول، بل من الفضاء الذي يطبق على الأجواء، ما يُفيض عينه مما سيعرف من الحق.

في النجف الأشرف سيتعرَّف البابا على إمام الزمان، وكيف تسعى السلطة والإمرة إلى “نائبه العام”، تقف على أعتابه تطرق بابه، فيتحاشى ويرفض، تُقبِل إليه فيحجم ويُعرض، وتتودَّد فيعفَّ ويعزف… وسيكتشف كيف يختار “ولي الله الأعظم” نوابه، وينتخب أحبابه، ويؤيد أولياءه. وسيفهم جانباً من أسرار تأييد “الناحية المقدسة” للسيستاني، وأسباب دعمه ونصرته لزعامة الطائفة دون غيره، وسيفهم جواب أبي سهل النوبختي وقد سُئل: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: “هم أعلم وما اختاروه، أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه، كما علم أبوالقاسم، وضغطتني الحجة، لعلِّي كنت أدلُّ على مكانه، وأبوالقاسم لو كان الحجة تحت ذيله، وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه”. لقد تأسس الأمر وقام على التقية، وما زال يمضي عليها، وسيبقى حتى الساعة الموعودة، يتقلَّب في أهل الطاعة والإخلاص، بعيداً عن أرباب الإذاعة والاستعراض، ناهيك بالمدعين المنتحلين، مهما علت أصواتهم وانتشرت صورهم وحكم سلطانهم.

في النجف سيعرف “فرنسيس” ما هي القوة، وأنها ليست في الصواريخ والطائرات المسيرة، ولا في النفط والمال والاقتصاد، ولا في المخابرات والجند الأشداء، ولا في الإعلام، الواقعي منه والافتراضي، نهض به صعاليك أو ذباب إلكتروني، ولا حتى في ضغوط جماهيرية وحراك شعبي وتعبئة مظاهرات… ولعلَّ الغطاء يُكشف عنه، فيرى السماء مكتظة بملائكة مدججين بالرماح والحراب، وأبابيل في مخالبها حجارة من سجيل، ترتقب أوامر القصف وتنتظر ساعة الانطلاق تجعل الأعداء كعصف مأكول… فالحُزم المتدلية من أشرطة المولدات الكهربائية المتداخلة والمتقاطعة، تصنع مظلات لرصيف شارع الرسول، لن تحجب السماء هناك، ورائحة الدهين والشواء المنبعث في الأرجاء، لن تحول دون عبق لها يضوع، تلتقطه مشام الأولياء، ويسري إلى مَن يريد الله له السعادة والخروج من الشقاء!

سيرى البابا في النجف الأشرف، رجل السلم والرحمة الذي امتشق السلاح وأظهر الشدَّة والقوة، عندما طغى الإرهاب التكفيري وتآمرت القوى الكبرى وغابت الدولة، حتى إذا قضيت المهمة وأُنجز الواجب، عفَّ عن مغانم السلطة وترفَّع عن مطامع السطوة، وأبى إلا ما يرسِّخ الكيان السياسي للبلاد، عبر المنظومة المدنية المتفق عليها لجميع الطوائف والأديان… دون عُقَد القوة ومركبات نقص الهيمنة، ولا تطلُّعات تأخذ البلاد والعباد في فوضى وهدر الدماء بلا طائل، غير مزيد تعقيد وتأزيم، وتوظيف للعراق ورقة على مائدة مقامراتهم.

الزيارة التاريخية ستكتسب قيمتها العظمى وتبلغ حظها الأوفر الأقصى، إذا انقلبت روحانية، وهو خيار مبذول من منابع البابا فرنسيس وجذوره، ورهان على خلفيات الظلم والفقر والبؤس التي انحدر منها، واستضعاف عاشه في الأرجنتين، يفصله عن برجوازية كنسيَّة ما برحت تستأكل بالدين، وتنأى به عن تحالف ماسوني ما زال يتحكَّم بالقرار ويقود المؤمنين… وإذا لم يكتب لها ذلك، فإن دلالتها السياسية تامة وحاسمة، وهي الفراغ من الزعامة الشيعية في العالم، وتراجع الخيار الإيراني، في حال قبوله، إلى حدود الدولة، دون السلطة الروحية والقيادة الدينية. وهذا ما يلهب القلوب الحاقدة ضراماً، ويهيج الأقلام المرتزقة تيهاً وضلالاً، فنحن نعرف جيداً ما الذي يوجعها، ولا سيما جراء لندن، ومن أين يهيج عليهم الألم وتسكنهم المحن، “الخشب المسندة” قاتلهم الله أنا يؤفكون… وكما أنشد عبدة بن الطبيب: إن الذين ترونهم إخوانكم، يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا!