العزاء أم المحاضرات

لو أتيح لعالِم نحرير، فقيه فذٍّ ومحدِّث ضليع، عارف كامل وفيلسوف بارع، جامع للمعقول والمنقول، متمكِّن من سائر العلوم والفنون، يتمتع ـ من بعدُ ـ بعقل موزون، وحكمة راجحة، وخبرة واسعة، وفطنة نادرة، ليكون ـ بحق ـ نابغة دهره وفلتة عصره، وعبقري زمانه… لو قيِّض لمثل هذا الحكيم، بعد كل ذاك العلم والفضل والحصافة والحنكة، أن يطَّلع على الغيب، فُتِحت له سجلَّات ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة! فنظر في سير الأُمم ونهوض الدول، وسبَر بناء المدن وقيام الحضارات، عرف أسباب انتشار المدارس الفكرية، وخبر أسرار ألق المذاهب الدينية، وتبصَّر في عوامل تداعيها وعلل سقوطها، ووقف بعد الماضي والتاريخ، على الحاضر والمستقبل… ثم أُعطي قلم القضاء والقدر، وطُلب إليه وخُوِّل أن يخطَّ نهجاً، ويبتدع فكرة، ويرسم آلية تحفظ الدين من الضياع والمذهب من التحريف، يقترح فكرة عملية فاعلة، تمكِّن الدين من مقاومة الاندثار والتآكل التاريخي، وتمنحه القدرة على الصمود أمام عوامل التحريف والتزييف، التي تصيب الأديان وفكر الإنسان، لدور الحياة الاجتماعية ومكان السياسة والمال والاقتصاد (كما تفعل عوامل التعرية والتجوية في الطبيعة)، الذي يبدِّل الأعراف والعادات، ويغيِّر العلوم والثقافات، ويقلب حتى العقول والمدرَكات، يذهب بنُظم ومقولات، ويأتي بمُحدَثات مبتدعات… فيخترع لنا ما يمكِّن الدين من الاستمرار، وما يبقيه في موقع الصدارة في المجتمع، ويهبه دوراً ومكانة، تحمل حمَلته، من سائر الطبقات ومختلف القطاعات، على التزام عقائده وشرائعه، وتقودهم للدفاع عن معارفه والذود عن قيَمه ومبادئه، والبذل في سبيله…

ما كان هذا الحكيم ليعدو اقتراح تأسيس أو صنع موقع ومحطة تحمل زخماً عاطفياً متأجِّجاً، وحبّاً وعلقة روحية متدفقة، لا تنطفئ ولا تخمد أبداً، واختراع آلية قادرة على اجتذاب الناس وجمع مختلف الأطياف وحشدهم، وتأمين دوام حضورهم وفاعليتهم، بما يحملهم على البذل والعطاء، في أموالهم وأنفسهم، ولا سيما تفاعل عواطفهم، التي تستنبط دموعاً تنصبُّ وتنهمر، وتفجِّر دماءً تسيل وتسيح، وتصرف أموالاً تغدق بجود ونخوة، وطاقات وجهوداً تُقدَّم حباً وكرامة، وعطاءات تبذل طوعاً ورغبة… ولما بلغ هذا الحكيم في إبداعه ما هو قائم في المذهب الجعفري وجارٍ في الطائفة الشيعية من خلال منظومة الشعائر الحسينية، وما يجري في إحيائها والتزام العمل بها، مما ترك الآخرين حيارى في صور السمو الروحي ونكران الذات والتكافل الاجتماعي، والأهم الأخطر: الحفاظ على الهوية ومنع انحلالها في المحيط الضاغط والبيئة القاحلة، واندحارها أمام الظروف العصيبة القاهرة، التي ما وفَّرت وسيلة ولا تنزَّهت عن حيلة.

لا شيء أبقى التشيُّع على أصالته وحفظ له خلوصه ونقاءه، بعد دور الحوزة في صون تراث أهل البيت واستنباط معارفهم من كنوزهم… إلا مظاهر الولاء وشعائر العزاء، ومنطلقها الحب والزخم العاطفي! هذا ما أبقى المذهب صامداً، وحفظ التشيُّع حياً متدفقاً. ولو زعم حكيم أن ملحمة كربلاء ما قامت ولا كانت إلا لتزرع بذرة الشعائر التي تلتها، وتخطَّ لمسيرة التفجُّع والرثاء والبكاء التي أحيتها، لما قال جزافاً، ولاتَّسق ذلك مع مقولة طريقية النهضة الحسينية في حفظ الدين، وإن كان الرأي السديد، بل الصحيح هو موضوعيتها، فالبكاء والندب والجزع غاية في شريعتنا، كما الصلاة والصيام.

هذا أقصى ما يتمناه أي دين سماوي أو غير سماوي، وترجوه أية مدرسة فكرية بشرية، سياسية أو اجتماعية، أن تتمتع بموقع ومحطة عاطفية مثل الشعائر الحسينية، فتمتلك جوهراً من العاطفة والعلقة القلبية، تستتبع أحكاماً وتقاليد وأعرافاً تشكِّل ثروة لا تنضب، وكنزاً ومعيناً لا ينفد… وهي جميعاً تتحسر على افتقادها هذه الآلية التعبوية، والقدرة التنظيمية، التي تبلغ الذروة في الضبط والإحكام، مع احتفاظها بقمة العفوية والارتجال، وتمتعها بمنتهى الحرية والاستقلال، والفكاك من الإملاء الحزبي والتسلُّط الحكومي!

في أول لقاء جمعهما سأل فيديل كاسترو الرئيس الإيراني: كيف لكم أن تُبقوا الساحة الجماهيرية ساخنة، وبهذه الحرارة العالية؟ أجابه رفسنجاني بأنَّ “قديساً” عندنا أراق دمه يوماً، فأمدَّنا بهذا الدفق والحماس منذ ذلك الحين! وفي آخر زيارة له لإيران عام 2001، التقى كاسترو هاشمي رفسنجاني، وقال له، في ما بدا تعليقاً متأخراً على جوابه: ليس عندنا قديس يحبه الناس إلى هذا الحد، فيبكونه عاماً بعد عام منذ 1400 سنة، إنهم لا يبكون “ربهم” المصلوب بعد عذابات الجلجلة، فمن أين نأتيهم بقديس مثل الحسين؟!

من هنا، لك أن تتأمل في مدى سفَه القائمين على مشروع “المحاضرات”، سفهٌ مجلَّل بجرأة وجسارة، وثقة بالنفس تبلغ الوقاحة والصفاقة، مما لا يكون إلا في فدم أخرق، عرف شيئاً وغابت عنه أشياء، يحدوهم للابتكار، ويحملهم على الاجتهاد والابتداع، ويسوِّل لهم اختراع المحدَث، الذي يغيِّر جوهر الشعائر وكُنه العزاء الحسيني، يقلبه من الرثاء والبكاء، لصالح الدروس والمحاضرات! ولست أريد الحداثويين، فهم خارجون تخصصاً، فلا ريب أنهم ينطلقون من غرض ومرض، إنما الحديث في جملة من الناشطين المخلصين، وبعضهم من أهل الفضل والبصيرة، غلبتهم الغفلة، فوقعوا في المصيدة! وهي هنا شبيهة باقتراح أو أمنية أدلى بها ساذج، تمنَّى لو زاد مقدار زكاة الفطرة، التي يلتزمها الغالبية الساحقة من المؤمنين، دون الخمس الذي لا يُخرجه إلا النخبة من الملتزمين! وتصوَّر الأمر بمخيلته العرجاء، فرأى أن الزكاة لو زاد مقدارها كانت ستعالج قضية الفقر وتقتلعها من جذورها! والحال أنهم كانوا سيمتنعون عنها كما يمتنعون عن الخمس! وإنما شرِّعت بهذا المقدار الضئيل، رحمة من الله ورفقاً بعباده، يتيح لهم أن يخرجوها لتطهر أموالهم وتسلم نفوسهم، وإلا لغلب الشحُّ النفوس وهلك الناس!.. هكذا الأمر هنا في الشعائر الحسينية، يقيس بعضهم مسألة كثافة الحضور وضرورة اغتنامه واستغلاله، فيعمد إلى قلب المجلس الحسيني وتبديله بندوة ودرس ومحاضرة! غافلاً أنه ـ بعد حين ـ سيخسر الاثنين، لن يبقى أحد في محاضراته، ويفلس من الأصل الذي فرَّط فيه من قبل! والبلاء أن هذه السطحية والرؤية المقطعية التي تبتر الحاضر عن الماضي وتفصله عن المستقبل، وتخرجه من المخطط الإلهي الغيبي لصالح رؤيتها البلهاء، لا تختص بأزمة المنبر والمحاضرة فحسب، بل تسري إلى جميع أنماط الشعائر، ولا سيما الأموال التي تصرف فيها، مقابل بذلها في وجوه الخير الأخرى، التي تشكو إعراضاً، ولربما جفوة من المؤمنين، فيسعى الجاهل إلى تغيير وجهتها وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

ومما يغفل عنه هؤلاء الناشطون، وقوعهم في “الذين جعلوا القرآن عِضين”، تضيق رؤيتهم فلا يرون من الدين إلا مفردة واحدة، وتهبط هممهم فلا يرقبون ويتطلعون إلا جانباً فحسب، هو الاستفادة العلمية أو التربوية الأخلاقية من عاشوراء… وإن كانوا على صعيد الزعم والدعوى لا يتنكرون للعزاء، ويقرُّون بمختلف صنوف الشعائر، لكنهم في واقع الأمر يغفلون عن حال مستمع المجلس الحسيني، الذي حولوه إلى درس ومحاضرة، وكيف عساه أن يقوم ـ في المفترض ـ بعد قليل ليلطم ويجزع، ويحمل المشعل ويلوِّح بالراية! أو يسبق ذلك بإعداد مكان الاجتماع وتهيئته، تنظيفاً وترتيباً، وطبخ الطعام وتوزيعه على المعزين، وأنشطة أخرى، ومجهود كله يأخذ أبعاداً تعبوية وشعبية لا تتناسب بأي حال مع المحاضرة والبحث والفضاء العلمي. نحن في الشعائر الحسينية في عزاء، وفي عرصة وميدان ومجال كله انفعال وهيجان، حزن ولوعة، وبكاء وصرخة، ولطم وجزع وفجعة، وهذه كلها تتعارض ذاتاً وطبعاً مع قضية المطالب العلمية المعمقة، والأفكار المنمَّقة، فإذا أصر الباحث والمحاضر أن يجعل المجلس الحسيني على هذا النمط، سلبه انفعاله وهيجانه، وأخلاه من قوته وعصفه ورعده، وألقاه في فراغ عطَّل بقية أنشطة أهله وروَّاده.

إن نظرة في حال الشيعة في الشام، وما فعله فيهم السيد محسن الأمين، وانجر لتعطيل العزاء على سيد الشهداء نحو مئة عام، ترسَّخ فيها أن لا قيمة للمجلس الحسيني إلا بفائدة علمية يتلقاها الحضور من درس أو محاضرة، أو أدبية من قصيدة يلقيها شاعر في أجواء مطارحة ومسامرة، وإلا فمجرد البكاء هدر ومنقصة… حتى عاد هذا العام ليستعيد شكله الحقيقي وصورته الأصلية، فأقيمت المجالس الحسينية في أحياء الشيعة وحسينياتهم، وصار المؤمنون هناك يبكون إمامهم، كما يفعل إخوانهم في سائر أقطار المعمورة… إن هذه المأساة والكارثة العظمى، تشكِّل درساً بليغاً وموعظة كافية، لتوقف كل مخلص، وتوقظ كل واهم وغافل، أن يقع أو يوقع شريحة في هذا البلاء.

والساحة الإيمانية في هذه المرحلة تعمد إلى التنبيه العابر فحسب، ولا سيما أن المخاطبين أحرار تكفيهم الإشارة، وإلا فإن شواهد متظافرة وقرائن متعاضدة، تقود إلى نزعة عروبية بل بعثية، هي التي تقف خلف هذا النخر الخبيث، من دسِّ المحاضرات بدل الإبكاء، إلى معونة الفقراء بدل الإطعام، وانتهاءً بالتبرع بالدم بدل الإدماء، وغير ذلك من أدوات الانقلاب على العزاء الأصيل. إن الخيوط تنتهي إلى محورية تريد السيطرة على الخطباء، عبر تنظيم التبليغ الديني، وتأمين رواتب وأجور، وهناك مركزية يتسلَّط عليها تيار، تحكمه نزعة تنفر من كل ما هو “قمي”، لا من حيث الانتساب للنظام الإيراني، والانخراط في منظومة الحكم والسلطة، بل من كلِّ قادم من هناك! وإن كان فاضلاً حُراً مستقلاً، بل من بيت نجفي ونشأة علمية تحسب على مدرسة النجف الأشرف! وكأن معياراً قومياً أو بعثياً يحدوها، يتحسس من كل شيء إيراني، وإن كان ذو جذر نجفي، حتى لتُرفض كرامة للميرزا جواد التبريزي، أو السيد تقي القمي، ويلاحَق ناقلها كمتهم اقترف كبيرة!

وبعد التنبيه والتذكير، تحذير ومواجهة، ودفاع عن الدين لا يسمح بمضارعة ومهادنة.

عام الامتحان…

هذا عام وقع فيه بلاء عظيم، افتُتن المؤمنون وزلزلوا، وخضعوا لاختبار عصيب وامتحان عسير، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، وقد أكرم الله مَن أكرم وأهان مَن أهان. فاز قوم وسقط آخرون، عثرت فئة وكبت جياد، سرعان ما استدركت وتلاحقت، فأقال الله عثرتها، نالها الغوث وامتدَّت لها يد الرحمة، فكتبت لها النجاة، جمعت شتاتها وقامت من كبوتها، نفضت الغبار عنها، وعادت إلى طريقها واستأنفت مسيرها. بينما قبع غيرها في حضيض عنادها، وأقامت على مكابرتها، فلبثت في الفضيحة ولبسَها العار الأبدي. ستر الله على بعض المؤمنين، وفضح آخرين، ظهرت عورات وانكشفت سوءات، حاص بعضهم حيصة، أراد منع المطبرين من دخول الصحن الشريف، لولا أن أدركته المرجعية وتدخلت فانتشلته وأنقذته، وبقي الأشقياء، يغالبون حبائل ارتضوها ومكائد جعلوا أنفسهم في طريقها، فاصطادتهم شباك الشيطان، وقيَّدتهم حبائل ولايته، فازدادت العُقد تركيباً والحبال التواءً وتقييداً، وضاق حول أعناقهم الخناق، فهلكوا بما عقصوا بأيديهم وفتلوا بأكفِّهم!

خاب مَن سقط وخسر مَن رسب، وأفلح مَن فاز وظفر مَن نجح… وإن أُصيب بعض الفائزين، فلحقتهم عدوى الوباء ونزل بهم المرض، فقد اتخذوه وساماً، وتلقوه تنقية وتطهيراً، وعلامة قبول وأمارة رضا، كمَن تثقل ضربة التطبير على رأسه فيشتد نزفه، أو تحترق يده وهو يعدُّ الطعام للمعزين، أو يعرض له عارض وهو في سبيل إقامة المأتم فيُعتقل أو يلقى حتفه، تنكفئ السفينة التي تحمله أو الوسيلة التي تقلُّه، فتنكفئ به في الجنة… فهذه العبادة، كما تعمَّق السند الكبير دام ظله وتألَّق، ليست كالصلاة والصيام التي يحكم عليها حفظ النفس ويحوطها منع الضرر والحرج، بل مثلها مثل الجهاد، مبنية على المشقَّة والكُره والضرر، وهو في قوامها وطبعها الأول… والناهضون بها ينادون: لا نامت أعين الجبناء.

الخطير الذي يهون في سبيله كل بذل ويرخص كل عطاء، النجاح في الامتحان والسعادة في أداء الواجب الذي خلق الله الشيعة له، أي إقامة عزاء سيد الشهداء، فيتلقَّى المرء كتابه بيمينه، لا بشماله ولا من وراء ظهره! ولا يسقط كما سقطت الخامنئية والأحزاب التابعة لإيران، هوت كلها، ولحقها ـ مع الأسف ـ غيرها، شرذمة غلبها السخف واجتذبها بريق السلطة والإعلام والشهرة، غرَّدت في رؤوسهم بلابل عار دفين، حسبوه مجداً غابراً أرادوا إحياءه، فتبرعوا بدمائهم النجسة، ليخمدوا فورة الجزع ويطفئوا نور التطبير، واحتجوا أنه مجرد خيار وبديل، وما هو إلا ثار طريد البصرة، وجد ضالته في فدم بليد!

هذا عام أُرغمت فيه أنوف وأُخزيت وجوه وعُجِّلت حتوف، طغاة وجبابرة انبروا لتحدِّي الحسين ومصارعة خدَّامه، قصم الله ظهورهم، وشياطين أرادت الاستعلاء والاختيال، فافتُضحوا وذلُّوا في أعقار دورهم، وقهروا حتى قطَّعوا أصابع الندم من عضِّها، وصعاليك يتبعونهم، يردِّدون مقولة أسيادهم، ويلحقون بجبهات أوليائهم، وهؤلاء لا سبيل لإسكاتهم، فقد خلعوا الحياء، وتمعَّكوا في الهوان، واقتيدوا بخزائم أنوفهم، قطعاناً وفرادى، يرقصون على ألحان أسيادهم، يجترون ما يُعلفون، ويخلِّفون وينثلون، وغير الروث لا ينتجون!

كانوا يزعمون تنقية الشعائر وينادون بتنزيهها، يدَّعون الحرص عليها والخوف من تشويهها، ويعيبون على الحسينيين الفوضى والعشوائية والارتجالية، وغلبة الحالة الشعبية، وافتقاد التخطيط والتنظيم! وإذا بهم يعلنون العجز عن تنظيم مجالس تستوفي الشرائط الصحية! وهم التنظيم الأقوى في العالم! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. مضوا في هذا وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم كاذبون، من أعلاهم إلى أدناهم! ولتشهد لهم بعد هذا إسرائيل، ويملي لهم إعلامها الماكر بما يغويهم، من صدق قائدهم، ويبعث النشوة في أنفسهم الواهنة، ويغلب السكر أرواحهم المريضة وعقولهم الركيكة، فتنطلي عليهم الخديعة، أو يتناغمون معها، بما يعينهم في إضلال جمهورهم، ويكفيهم في صناعة الوهم ومسيرة الضلال الذي يبثون وينشرون!

لقد انكشف وثبت بالحسِّ والشهود والوجدان، أنهم أعداء أصل العزاء وفرعه، يرفضون كافة أشكاله وأنماطه، حتى أدناه المتمثل في عقد المجالس والاجتماع للبكاء… ما صدَّقوا أن جاء الوباء، حتى تلقُّوه بلهفة المشتاق وترحيب المفتاق، هدية غيبية كانوا يبحثون عنها في الأرض فجاءتهم من السماء! وفرصة تاريخية يسجلون فيها سابقة، تفتح الباب من قابِل نحو المزيد، وتوفِّر حجة ينطلقون منها إلى تكرار التعطيل، فما وقع مرَّة وكان، جاز أن يُعاد ويكون، ولن يبخل عليهم إبليس بذريعة يخترعها وحجة وعنوان! هكذا بثوا الرعب والهلع في نفوس المتطلعين لإقامة العزاء الحسيني، واندفعوا في ملاحقة المجالس بالقمع والترويع، والتنكيل والتشنيع، يكبسون الدور ويرهبون أهلها، يهددونهم بسطوة القانون والغرامات المالية، وكل جريمة أهلها أنهم اجتمعوا ليذكروا مصاب الحسين ويبكوا فاجعته؟!

والحق أن الأمر يبعث على الدهشة ويورث الحيرة، أن يُستدرج مؤمن ملتزم حتى يسقط في هذا الوادي السحيق ويهوي في هذا القعر العميق، يضيع ويتيه فيخوض معركة، كان حياته كلها يصطف في الجبهة المقابلة لها، وينادي بنقيضها؟! كيف لشيعي أن يصطف لحرب الشعائر الحسينية ويلحق بأداء ناصبي حاقد، يأباه الكرام ويأنف منه الأحرار، من أية ملة كانوا، فإقامة الشعائر وممارسة المعتقدات الدينية، قيمة إنسانية ومُعطى وجداني، يتطلَّب جحده وإنكاره تسافلاً وانحطاطاً، وإغراقاً في الابتذال، فكيف بمحاربته ومنع أربابه عنه بالقهر والرعب!؟ مَن الذي استدرج هؤلاء فألقاهم في هذا الشقاء؟! والمفترض أنهم أطهار شرفاء؟ نفوس طيبة تعاهدتها يد الغيب بالرعاية، وهي نطف في الأصلاب، لتنحدر من طهر وتتولَّد من نجابة، حاطتها عبر الأسلاف ومن غابر الأزمنة والأحقاب بالحراسة والصيانة، لتصرف عنها اللوث وتدفع الدنس، فتأتي خالصة نقية، وتنحدر طاهرة زكية… كيف لها أن تهوي وتسقط بهذه الكيفية؟ فتتخلى طواعية عن عقائد قامت في سبيلها حروب وبذلت دماء؟ وتفرِّط بتراث دفعت الطائفة لحفظه أغلى الأثمان وتحمَّلت أشدَّ البلاء؟ كيف لـ”إمامية”، يرون “الإمام” أصل دينهم وصلب مذهبهم، أن يمتهنوه بهذا الشكل، فيخلعوا ألقابه ويسرقوا صفاته لصالح زعيم حزبهم؟! وهم الذين يكررون في أدعيتهم وزياراتهم، “فبلغ الله بكم أشرف محلِّ المكرَّمين، وأعلى منازل المقرَّبين، وأرفع درجات المرسلين، حيث لا يلحقه لاحق، ولا يفوقه فائق، ولا يسبقه سابق، لا يطمع في إدراكه طامع، حتى لا يبقى ملك مُقرَّب، ولا نبيٌّ مُرسل، ولا صدِّيق ولا شهيد، ولا عالم ولا جاهل، ولا دنيٌّ ولا فاضل، ولا مؤمن صالح، ولا فاجر طالح، ولاجبَّار عنيد، ولا شيطان مَريد، ولا خلق فيما بين ذلك شهيد، إلا عرَّفهم جلالة أمركم، وعِظَم خطركم، وكبر شأنكم وتمام نوركم، وصدق مقاعدكم، وثبات مقامكم، وشرف محلِّكم ومنزلتكم عنده، وكرامتكم عليه، وخاصتكم لديه”… وهناك مئات النصوص وآلاف العبارات التي تكرِّر هذا التفوُّق وتثبِّته، وتؤكِّد هذا التميُّز وترسِّخه، لا يحتاج معها أي متدبِّر ليكتشف أنها بصدد قطع الطريق على المقارنة والتشبيه، ومنع المقايسة والتمثيل، وأن الفذلكات السمجة التي تحكي برودة أوجه ملقيها، وموت الإحساس في متكلفيها، هي تعسُّف وتحايل شيطاني، يريد أن يسقط فضائلهم ويبطل تميزهم.

ولا ينقضي العجب إلا عند التنبه والتيقظ، بعد شيء من التمعن والتدبُّر، وبقراءة واعية تلاحق تفريطات القوم وسقطاتهم المهلكة، فينكشف الغطاء ويرتسم الخطاب وتزول الحيرة والاستغراب… ففي كتاب الله، في تأويل قوله تعالى: “وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع” ، وفي كتب الحديث التي يجاهدون لإسقاطها عن الإعتبار، مثل الكافي الشريف، أبواب بعنوان “ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله” وآخر في “المعارين”… تجد الجواب!

فعن الصادق عليه السلام:”إنَّ الله جبل النبيين على نبوَّتهم فلا يرتدون أبداً، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبداً، ومنهم من أُعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان”. وعنه عليه السلام: “إن الله عز وجل خلق خلقاً للإيمان لا زوال له، وخلق خلقاً للكفر لا زوال له، وخلق خلقاً بين ذلك واستودع بعضهم الإيمان، فإن يشأ أن يتمَّه لهم أتمَّه، وإن يشأ أن يسلبهم إياه سلبهم”. ومن خطبة لأميرالمؤمنين عليه السلام: “فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقراً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم”.

ببساطة شديدة، هؤلاء تخلوا عن إيمانهم وتراجعوا عن ”إماميتهم”، وهم اليوم ينتمون إلى مذهب يرسم قائدهم معالمه، وتحدد قيادة حزبهم شرائطه وضوابطه، فلا أسى ولا حسرة، إلى حيث وجههم وليهم الرجيم، إلى جهنم وبئس المصير. ولات حين مندم.

يقال أن قطاً دخل دكان حداد، فأصاب صدأ على المبرد حسبه أثراً للحم، فأقبل يلحسه، والدم يسيل منه وهو يبلعه، يظنه من المبرد، وما زال مستغرقاً في فكرته وفعلته حتى فني لسانه فمات.