تعالوا لننزه الشعائر… دعوة إلى ميثاق شرف

هناك عظماء، علماء وقادة وزعماء، يبنون الشرف والعزة لشعوبهم، ويورثون الفخر والمجد أممهم.. كلهم كمال وبركة ونماء، يفيضون النفع مما امتلأت به أوعيتهم، وتتفجر ينابيع الخير من خصب وجودهم، وتجري أنهار الإحسان من جود نفوسهم، وتتدفق المكارم من كرم أياديهم وعميم فضلهم وجزيل عطائهم… والأمة على الموارد والضفاف، تنهل وتغترف، تشرب وترتوي.

وفي المقابل هناك أدعياء يتطفلون على هذه الأعتاب، ويتسلقون تلك المراقي وينتحلون المراتب والدرجات.. وهي ليست لهم، وهم ليسوا منها.

يتوغلون في هاتيك الربوع ويتنقلون بين تلك الحقول، كمتطفل التحق متسكعاً، ووارش قحم بلا دعوة.. والدعوات هنا تصدر عن الفضائل والمكارم والكمالات: العلم والفقاهة والعدالة والبذل والعطاء والكرم، ثم كرامة من الله، يرفع بها من يختار ويعز من يشاء..

إن الأدعياء معقّدون من المجد.. يرونه يجدّ السير ويحث الخطى نحو بعض خصومهم ومحسوديهم، وكأنه يطاردهم مطاردة، وهم يفرون منه فرارهم من النار والأسد! ويأبى إلا أن يلحقهم ويعلق بهم.. فيُـلبسهم خِلَعاً، ويخضع لهم فيطوّعونه كدابة يعلون ظهرها ويمضون بها أينما شاؤوا!

بينما هم يكابدون ويتهالكون، لعل وعسى أن يحظوا بموقع ويظفروا بشيء على هذا الصعيد، فيشار إليهم بين الناس ببصمة خلفوها في هذا الميدان، أو أثر تركوه في ذاك، فلا يمر عليهم التاريخ مهملاً متجاهلاً… لكن هيهات.

إنهم لا يعفون عن شين، ولا يتورعون عن قبيح، ويعمدون جاهدين إلى أية وسيلة ويلجأون لكل حيلة.. فإذا أفلسوا، عمدوا إلى التخريب، ولا يبالون!..

نعم، لا يكترثون أن يشوهوا ويهدموا شعيرة دينية أذهلت العالم وعقدت ألسنة الخصوم والأعداء، وقبل ذلك وبعده، شكلت الرافد الأعظم الذي يأخذ الشيعة إلى النجاة، ويفتح لهم سبل الصلاح ويشق دروب الفلاح، ويشرع أبواب الرحمة على مصراعيها.. أي زيارة الأربعين.

كما يفسد الخل العسل وتتسرب العُثّـة في الثياب والأرَضَة في البناء… قاموا بإدخال النزاعات السياسية إلى زيارة الأربعين، وأقحموا نزعاتهم الشخصية وأهواءهم وتحزباتهم، لتفسد خير الأعمال وتبطل أزكاها..

ملايين الشيعة يقطعون مئات الأميال، سيراً على الأقدام، وآخرون يتنافسون في استضافتهم ويتهافتون على خدمتهم، ويفتخرون أن يجعلوا ظهورهم بل وجوههم موطأ أقدامهم… في أجواء ترسم أجمل صور التواد والتراحم، وتضرب أروع الأمثلة في الأخوّة الإيمانية التي تجمع الشيعة على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأوطانهم ومدنهم… وفضاء مفعم بعبق الإخلاص وأريج العشق، وروحانية تنزع بهذه الدروب وتأخذها لتحلّق بها فوق هذه الدنيا وقوانينها، فكأنها طرق في السماوات وخطط في الملكوت، تسلكها أفواج الملائكة لا زرافات البشر، تقدم رعيلاً بعد رعيل، وتتقاطر من كل فجّ عميق، تجدّ السير لا على ضامر ولا راحلة، بل مشياً على أرجل وسعياً على أقدام لا تريد ولا تطلب إلا الثبات غداً على الصراط!…

في هذه العرصات الملكوتية والأجواء الإلهية… ترى الشيطان ينزغ والأبالسة يجهدون! لا يطيقون كل هذا النور والضياء، ولا يتحملون هذا الحد من السمو والارتقاء، فيتحركون ليتلوث المشهد… وأداته الأولى حزبيون يخوضون نزاعاً ويفتعلون صراعاً! هذا يلصق صورة وذاك يمزقها، هذا يرفع راية وذاك يقابلها… يهتفون لقادتهم ويلتمسون المجد لزعاماتهم، ويلبّون لرؤسائهم! فلا يجلبون لأنفسهم إلا العار، ولا يكثّرون إلا الضجيج.. والحجيج يهللون لمهوى أفئدتهم وصريخ نجدتهم وغاية مرضاتهم: لبيك يا حسين.

أيها المؤمنون الكرام، على اختلاف المشارب والمقاصد:

حتى ينتهي هذا المشهد المقزز، ولا يتكرر في الموسم القادم إن شاء الله،

تعالوا إلى ميثاق شرف…

تعالوا لنتعاهد أن لا ترفعوا بعد الآن صورة لزعيم (ترونه مرجعاً، ويراه أولئك دجّالاً!)، ولا راية لحزب، ولا علماً لدولة، لا أنتم ولا هم، كلنا نرفع راية واحدة هي الراية الحسينية وننادي بشعار واحد: يا حسين.

لا صور لزعامات، ولا أعلام لدول، ولا رايات لأحزاب ومنظمات، ولا صوت ونداء يرتفع فوق نداء: يا حسين.. رايتنا واحدة، وأنتم في سعة ومندوحة، ولكم الخيار أن تكون سوداء تحكي أحزاننا، أو خضراء ترمز إلى ساداتنا، أو حمراء تشير إلى ثار ننتظره جميعاً على يد إمامنا… ولكن يجب أن تكون دون اسم ولا رسم لأحد، إلا صاحب الذكرى وقطب الرحى. الحسين هو الذي يجمعنا ويوحدنا، وغيره يفرقنا ويشرذمنا، وقد جربتم ورأيتم بأم أعينكم، فهل تريدون للساحة الشيعية النزاع والشقاق، ونفي هذا الوئام والوفاق؟

في هذا تنافسوا وعليه تسابقوا، والمنافسة أمام الله وفي عينه لا أمامنا نحن، فنحن في شغل عن تسجيل النقاط بين بعضكم بعضاً، ولا يعنينا رصد “انتصارات” أحدكم على الآخر، بل في ضجر واشمئزاز من هذا التلويث والتشويه… الشيعة يريدون أن يحسنوا العزاء لإمامهم ولا يبالون بعد هذا بشيء.

تعالوا لنجعله ميثاق شرف بيننا والتزاماً أخلاقياً ننزل عليه جميعاً..

وبعد، فمن يرى الدعوة لزعيمه في صميم دينه ولا يمكنه أن يفصله عن سلوكه، فليبحث عن ميدان آخر، ولا سيما أن الطرفين لا تعوزهما الوسائل ولا ينقصهما المال، وهما يقفان على جبال منها، فلديهم إمكانيات فعالة وأدوات جبارة، ويملكون عشرات الفضائيات والمؤسسات الإعلامية والكوادر المتخصصة في صناعة الرموز، والمتفرغة للدعاية… فلا تفسدوا علينا عبادتنا وموئل وحدتنا.

هذا هو الإصلاح الذي يلزم ديننا (إن صحّ التعبير)، والتنزيه الذي تحتاجه شعائرنا.

الطاقة النفسية بضاعة الخاوين..

بلغني أن حملة (قافلة دينية) لزيارة الإمام الرضا عليه السلام جعلت في خطتها وأنشطتها للزوار مواد “تثقيفية” خاصة، بدل عقد المجالس الحسينية.. منها رحلة أخذتهم بعيداً عن الحرم الرضوي الأقدس، إلى ربوة في مزرعة تقع في أطراف “مشهد”، وهناك طلب مرشد الحملة من زواره أن يتبعوه في تمرين نفسي ورياضة روحية، قوامها التأمل وتركيز الفكر، ما يورث في أنفسهم شحنة من “الطاقة الإيجابية” ترقى بهم وتشحذ ملكاتهم وتصقل أرواحهم… ولا تعجب إن رأيت جل زواره وطلابه ومريديه من النساء! فهن أكثر من ينطلي عليهن هذا الخطاب. (وليت هذا “الخبير” و”المعلم” كان امرأة تخاطب نظيراتها وتتولى منهن هذه الخصوصيات، لهان الخطب وما أوليته اهتماماً ولا تجشمت عناء رده ومواجهته)…

خطاب لن أصفه بالدجل والتخريف والهراء، ولا بالشعوذة والنصب والاحتيال.. وإن أفضى ـ في أغلب الحالات ـ إلى استلاب العقل وخلّف في أتباعه تخلُّفاً وأورثهم تردياً وانحطاطاً… فهو في نفسه يتمتع بشيء من مقومات حقيقية ومعالم تقرب به من “العلم”، ولست في مقام دحض أدلته وإبطال حججه، مما هو في منتهى اليسر، ولا يحتاج كثير مؤونة لمن أراد، فأنا أرحب بكل نافذة تقود الانسان لما يرقى به للسمو عن الحسية والمادية، وأرحب بكل ما ينفتح به على عالم “الغيب” ويأخذه إلى رحاب روحانية…
ولكني هنا أسجل ملاحظات على ما غدا ظاهرة في بعض الأوساط الإيمانية، لا بأس بها في نفسها، ولكنها من ناحية أخرى وزاوية ثانية، تشكل عاراً يندى له الجبين، شيء أشبه بتسوّل ملياردير وطرقه الأبواب ومد يده لمرتادي الأسواق، ولجوء أستاذ كرسي في كلية الطب، يتخرج على يديه مئات الأطباء، إلى مضمد يصف لوعكة نزلت به الدواء!

أن يلجأ الناس في الغرب أو الشرق، من ملحدين أو أتباع أديان ومذاهب بعيدة عن مدرسة أهل البيت إلى هذا “العلم” أو الفن أو الرياضة والتمرين، فهذا مفهوم ومُبرر، ولكن أن تجتذب هذه الأمور البدائية والمفاهيم الضحلة أبناء أعظم مدرسة في الوجود، وتستهوي المنتسب إلى المذهب الأتم الأكمل، بما يحويه من تراث ويختزنه من إمكانيات روحية وتربوية وأخلاقية.. فهذه مأساة كبرى، وهي مؤشر خطير على جهل فاحش بما نملك، وعلامة صارخة على الفراغ والخواء الذي يعيش فيه بعض المؤمنين، ولا سيما أتباع المرجعيات الدينية المزيفة، الذين لم يجدوا ما يملؤون به أرواح أتباعهم إلا هذا الغث الرديء.

كم هو مؤلم أن تقرأ المرأة المؤمنة المثقفة كل كتب مهرج كـ”الفقي” على سبيل المثال، وهو من تكاد تجزم بعتهه وخبله، وتمتلئ خزانتها بإصدارات تافهة ما هي إلا اجترار وترجمة رديئة، والتقاط غبي لأعمال أجنبية لا تحظى بأي اعتبار علمي في موطنها، لتلاقي الرواج والتسويق في بلادنا… ثم ترى هذه الأخت المؤمنة غريبة عن كتب العِشرة والآداب والسنن في موسوعاتنا الحديثية كالكافي والبحار والوسائل بأبوابها الزاخرة وكنوزها الثمينة ودُررها الفريدة، ولم تسمع عن المحجة البيضاء للفيض أو جامع السعادات للنراقي ومرآة الكمال للمامقاني، فإن فعلت واطّلعت، فمن المؤكد أنها لم تفقه ولم تستوعب.. وإلا لما لجأت إلى ذاك التصفيف الأجوف والتنميق الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

في أية هاوية سقط هذا التعس حتى أعرض عن جوار حرم الرضا، وهو قدس الأقداس، عن موئل الروحانية ومهبط الملائكة ومعراجها، وغشي بصره عن أنوار تتلألأ لسكان السماوات وأوتاد الأرض وصفوتها ونخبتها؟! ويمم ـ كمرتاض هندوسي تائه ـ صوب تلّة خاوية ليس فيها من الروحانية حتى أطلال؟!

إنها حالة تبعث على الشفقة قبل كل شيء، أن يطرق شيعيٌ هذه الأبواب، ويلتمس العلاج ويبحث عن سبل طرد الطاقة السلبية، وجذب الإيجابية لذهنيته وعاطفته، ويطلب قوة إرادته وصفاء رؤيته.. في هذا المسلك والطريقة المضحكة، وهو على أعتاب العرش، ويحمل في يده بطاقة دعوة لعروج يُلحقه بسكان الملكوت الأعلى ويغنيه عن البشرية جمعاء، بل الدنيا بكل ما فيها ومن فيها.. كيف لا وقد تعلق بحبل الله واتصل بولي الله الأعظم بعقد ولاء، ووقف ـ بذلك ـ على سر عالم الإمكان وعرف ولي جميع الممكنات؟!

ولا أدل على فشل هذا الحقل وعجز هذا الميدان، من قراءة في النتائج والمخرجات.. فهذا المؤمن (أو المؤمنة كما هو الغالب)، تراه ما زال معانداً ومكابراً أمام ما تنقل له من معاجز وكرامات وخوارق عادات تصدر عن أهل البيت عليهم السلام! فيشكك مستبعداً ويكابر مستهجناً.. محكّماً “عقله” في أداء موغل في الحسية والمادية ناهيك بالجهل والأمية! فأين الروحانيات التي تلقاها من عالم الطاقة؟ وأين أخذته تلك “العلوم” والتمارين؟ وهو بعُد مرتهن لحسّه مقيّد بضحل فكره، ولا يبصر إلا في نطاق شبر أمامه!؟ أما من أفق أوجدته تلك التمارين؟ أما من سبح وحراك خارج عالم الشهود جاءه من تلك العلوم؟!
كيف يعيش أحدهم الحسية والمادية حتى يجاري الملحدين، ثم تراه يغرق في عالم الطاقة وهالات الألوان وما إلى ذلك من غير المرئيات؟!
كيف يسخر هناك، يشكك ويستبعد، ينفي ويجحد، ثم تراه هنا يذعن لمخالف أجوف، ويستسلم لـ “مثقف” يستخف عقول النساء فيغويهن وهو يتحسس عُقد النقص فيهن، ويناغي افتقادهن عاطفة الزوج وشكواهن من التجاهل وعدم التقدير (وكثيراً ما يختص إحداهن بإطراء لم تسمع في حياتها مثله، فتنبسط أسارير وجهها وتنحل عرى قلبها وتتهيأ لإلقاء العنان، ما يحفز البقية، فيتطلعن ويتمنين)؟! مغضياً عن لوث هذا “الأخصائي” بالسياسة، وغرقه بمشاكله الأسرية، وابتلائه بفساد مالي يصنفه في الجشع بعد الحرص والانكباب على الدنيا.. فأية روحانية هذه؟ وأي سلام وطمأنينة عساه أن ينقلها إلى تلاميذه أو يعلمها لهم؟..
ما لكم كيف تحكمون؟

لا نجاة ولا خلاص إلا بتحكيم موازين العلم والعقل، فلا يؤخذ شيء من المعارف الدينية والعلوم الروحانية، ولا مناهج السير والسلوك.. إلا ممن يجمع شرائط العلم والتخصص مع التقوى والعدالة.

ما الذي أسقط إيران عن الصدارة الشيعية؟ (٢ ــ ٢)

تلاقى سببان وتضافرت علتان، فأسقطتا إيران الجمهورية الإسلامية من موقع الصدارة في العالم الشيعي، وأزالتا عنها مقام “بيضة الإسلام”، وأقصتاها عن المكانة الأولى التي جندت الشيعة في العالم لنصرتها وجمعتهم عليها، وصار أتباعها وحُماتها اليوم مجرد مجموعات ومنظمات، أما ذلك المد الجماهيري والالتفاف الشعبي، فقد زال عنها ولم يعد سمة لها، بلا أدنى شك وريب…

السبب الأول: قيام عراق جديد بغالبية شيعية ساحقة تناهز ٨٠ ٪، نهض كمارد خرج من القمقم. ونتيجة لعقود متمادية من الحرمان والاضطهاد والتنكيل والإبادة التي عانى منها هذا الشعب المظلوم، تقدم في ظهوره الجديد منقطعاً إلى الله، خاضعاً لدينه ومذعناً لشريعته، متمسكاً بهويته ومعتزاً بمذهبه، ثم عارفاً بقيمة الحرية، ومقدراً هذه النعمة العظمى.. ناهيك بمحامد الصفات التي جبل عليها وغرست فيه طبعاً وسجية.

السبب الثاني: لقد كان العطاء المباشر والنتيجة الطبيعية لتبني الجمهورية الإسلامية الفكر الضلالي للدكتور علي شريعتي، والعقيدة المنحرفة لحزب الدعوة (فكر فضل الله)… هو تخلف الثورة الإيرانية في ثقافتها وخطابها الديني عن معطيات التشيع ومسلمات الولاء لأهل البيت عليهم السلام، والانتقال إلى جبهة الحداثة والالتقاط، التي تُفقد حمَلتها (مهما حاولوا وتحايلوا) المد الشعبي والانتشار الجماهيري، ذلك أنها تعارض الفطرة الشيعية السليمة، ناهيك بافتقادها الأسس العلمية السليمة والمنطلقات الفكرية السوية.

من هنا دخلت الجمهورية الاسلامية معارك ثقافية وعقائدية في منتهى الحساسية، تمس التشيع في الصميم، ما أفرزها وصنفها في جبهة أخرى.. فحين ترى سبعة من المراجع العظام للطائفة يحكمون بضلال شخص (محمد حسين فضل الله)، تقوم “الجمهورية” بتعظيمه وتأبينه! مستخفة بالثقل الشرعي والشعبي لهؤلاء، بل متجاهلة ما ارتكب ذاك الضال المضل من جريمة شنعاء… فكأن الزهراء عليها السلام لا حظ لها في هموم إيران وأولوياتها، وكأن “الجمهورية” اصطفت مع من يجحد مصيبتها ويريد نفي محوريتها!
واستمر الأداء الإيراني في هذا السياق المدمر عبر قناة الكوثر، بإثارة فتنة كمال الحيدري، الذي جاهر بالتخلي عن المذهب والدعوة إلى نهج مبتدع في الاستنباط والمرجعية والمذهب والعقيدة، وهتك مسلّمات الدين ومقدساته…
وبين هذا وذاك لم يتوقف النصب للشعائر الحسينية، ولا تراجع تأجيج الحرب عليها، بعنوان تهذيبها وإصلاحها وما إلى ذلك من عناوين لم ينطلِ شيء منها على الشارع الشيعي الذي غلبه الألم والحسرة على هذه المواقف، والغضب من هذا الأداء، وقد نكب بمصيبته وشرق بغصته، ولم يجد إلى بث شكواه من سبيل إلا… العراق.

في العراق وجد الشيعة ضالتهم، ورأوا واقع دينهم وعقيدتهم، وصاروا يمارسون شعائرهم، ويشكرون للشعب هناك حسن الوفادة وطيب الرفادة، وسعة الصدر والنخوة، على الرغم من ويلات يعانيها ومصائب لا تتركه ساعة يلتقط فيها أنفاسه…

حتى جاءت زيارة الأربعين هذا العام، وهو الأول الذي شارك فيه الإيرانيون بهذا الشكل الكبير، صاحَبه حضور لافت للقوى الموالية للسلطة (كانت في شغل عن الزيارة بتوزيع صور السيد القائد!)، وسلوكيات بعيدة عن الخلق الإسلامي والشرع الحنيف، أورثت بقية الزوار (حتى من الإيرانيين أنفسهم) ضيقاً واشمئزازاً، فصاروا يقارنون ويسجلون المفارقة، بين هؤلاء وأولئك…
إن العراقيين يسطرون ملاحم قل نظيرها في التاريخ، وهذا أداء سيترك أثره بالتأكيد. ولم يصمد ما التمسه بعضهم لتلك الفئة المعتدية في كونهم من العوام والجهلة (والحال أنهم شباب وفتيان من موظفي الدولة ومأموري النظام)… فكيف لـ “المعيدي” العراقي أن يتعامل مع زوار سيد الشهداء بهذا النبل والرقي، بينما يتعامل “الدهاتي” الإيراني بمنتهى الوقاحة ودون مراعاة لأية حرمة؟! حتى بالغ بعضهم في إساءة الظن وسجل ذلك على العمد في أذية الزوار والتآمر على الشعيرة بالإساءة إليها ودفع الناس لتركها…

وبعد هذين السببين، جاءت ثالثة الأثافي في بروز المرجعية الدينية في النجف الأشرف، وتألقها، وقدرتها على قيادة الساحة بأداء سياسي متفوق، استطاع تعبئة الشعب وخلق المناعة للعراق، ما أوقف تقدم التكفير والإرهاب، وأنقذ البلاد والعباد…

هكذا انكفأ دور إيران وتراجعت مكانتها في قلوب الشيعة، وسقطت عن صدارة تبوأتها طويلاً… لتعود الأمور إلى نصابها، ويرجع الناس لتلقي معالم دينهم من المرجعية الأصيلة واتخاذ مواقفهم من منطلقات شرعية وأحكام دينية بعيدة عن لوث السياسة وخداعها.

ما الذي أسقط إيران عن الصدارة الشيعية؟ (١ ــ ٢)

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، راجت فكرة خطيرة ما لبثت أن شكلت مرتكزاً في الحراك الإسلامي الشيعي في العالم كله، وهي اعتبار نظام الجمهورية الإسلامية “بيضة الاسلام”. بمعنى أنها تمثل الأُس والمرتكز الذي يقوم عليه الدين، وبضعفه واضمحلاله يزول الدين ويندرس، تماماً كما هي الكعبة المشرفة وشعائر الدين الأساسية، وما إلى ذلك مما ذكرته الكتب الفقهية بهذا العنوان: “بيضة الإسلام”.

وفي هذا السبيل، أو نتيجة لذلك، حدث حراك واسع في الساحة الشيعية في كل مكان، طولبت فيه المنظمات وأُلزمت الأحزاب (بضغوط شعبية عفوية)، أن تعلن انحلالها وتندمج في هذا الكيان الجديد، أو تنخرط في تنظيماته وتصبح واحدة من مؤسساته، وصار تقييم هذه الحركات بين الناس يدور على هذا المدار: كم هي موالية وتابعة للجمهورية الإسلامية؟
وهكذا ترك كثير من الشباب الشيعي بلادهم ومواقعهم وأدوارهم فيها، وزهدوا في معيشتهم ودنياهم، وهاجروا للدفاع عن هذه الثورة وما تشكله من “بيضة الإسلام”، ومن بقي في بلاده، عمل من هناك على نصرتها ودعمها، وإلا كان يُعد متخلفاً عن الركب وفارّاً من الزحف، ويوسم بالقعود والخذلان.

وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ووفاة القائد المؤسس السيد الخميني رحمه الله، وقع تغيّر جذري في نهج الثورة وسياستها، نحت فيه إيران منحىً جديداً، انتقل بها من “الثورة” إلى “الدولة”، وأخذت تنسجم مع المنظومة الدولية وتنخرط فيها.
وكذا مضى الأمر على الصعيد الثقافي، فقد تراجع الحضور الديني لصالح الوطنية الإيرانية (والقومية الفارسية خاصة)، وتراجعت معالم الهوية الشيعية لصالح الانفتاح على المذاهب السنية (كحقيقة علمية وعقدية، لا مجرد خطاب مداراة وتكتيك سياسي).
هكذا تراجعت ـ تلقائياً ـ شعارات الثورة ومبادئها إلى الصف الثاني والثالث أمام أولويات استقرار دولة وإعادة إعمار البلاد. وما زالت هذه المبادئ والشعارات في تراجع وانحدار (كل ذلك يُلبس بصيغة التكتيك المرحلي، ويدثّر بلباس الأداء الذي يريد ـ في المآل ـ تحقيق أهداف الثورة بالحيلة والمناورة بدل الإعلان والمواجهة) حتى وصلت اليوم الغيابَ الكامل والاندثار في بعض الأحيان، من قبيل ما يجري في مفاوضات الملف النووي… نعم، بقيت مبادئ الثورة وشعاراتها مادة إعلامية دسمة وغرساً دعائياً خصباً، استطاع (بالإضافة ـ في كثير من الأحيان ـ إلى مغريات المال والسلطة)، أن يجتذب بعض الشباب في العالم العربي ويجعلهم أداة لبسط نفوذ إيران السياسي وامتداداً لذراعها الأمني…

ومن مآسي التوافق أو محاسن الصدف، لست أدري! أن أصبحت إيران تتبنى وتعتمد ـ في نشر “ثورتها” وتمدد حضورها وبسط نفوذها ـ على مدرستي «الإخوان المسلمين» و«حزب الدعوة»، الأولى للبلاد والأوساط السنية والثانية للشيعيّة.. وقد ارتكزت على فكر ونهج ورجال هاتين المدرستين، وإن اعتمدت على تنظيمات موازية للدعوة والإخوان، ولكنها بقيت كلها تدور ـ عقائدياً ـ في ذلك الفلك، وتلتقي على نفس النهج.

وكان هذا خطأً فادحاً بل قاتلاً وقعت فيه القيادة الإيرانية، بقيت تداريه مصالح المستأكلين من كبار وصغار “الموظفين” الذين اجتذبهم النهج الجديد للثورة، وبقي غرور السلطة وغطرستها يكابر عليه ويأبى عليها الاعتراف به، ومضت في عنادها، وإصرارها بأنه عين الصواب!..

حتى جاء الربيع العربي ليصدم القيادة الإيرانية ويصيبها في مقتل!
فقد ظهر وبان أن «الإخوان المسلمين» (بعد «حزب الدعوة» الذي حل مكان حزب البعث) هما خيارا المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد! وأن أمريكا تكافح وتستميت لإقصاء منافسي حزب الدعوة في الساحة الشيعية، بما فيهم المجلس الأعلى الذي لا يختلف عنه كثيراً على الصعيد العقائدي!.. ذهل الإيرانيون وصعقوا، وهم يرَوْن الأمريكان والغربيين يدعمون نفس الحركات الإسلامية التي راهنوا هم عليها، وصرفوا المليارات لدعمها وتثبيت وجودها! لم يصدقوا للوهلة الأولى عمالة هؤلاء، ولا اقتنعوا باختراقهم وفشل خيارهم، والخدعة الكبرى التي انطلت عليهم! ناهيك بالإذعان بأنها حركات أسسها أسلافهم الإنجليز كما يقول خصومهم.

(يتبع)

يوم حدثتني الشعائر…

في خضم السجال المحتدم، والنزاع المشتعل، بل الحرب الضروس القائمة بين جبهتي الولاء والمرجعية والشعائر، وبين جبهة الحداثة والحزبية والسياسة، في الإعلام وفي الكتابة، في التواصل الاجتماعي والخطابة..
كنت في استراحة الفراغ من هذا الموسم، أنتظر أن أتلقى في إثره “صك الأربعين”، فأنا واصلت الحضور ولم أتخلف عن مجلس الحسين من أول محرم، حتى إني غالبت وعكة نزلت بي في بعض الليالي كي لا أقطع هذا الحبل المتين، ولا تنفصم عني تلك العروة الوثقى…
وقد جاءت الاستراحة هذا العام لتعقب معركة شرسة لم يوفر العدو فيها بذيئاً من أساليبه ولا خسة في أدواته، ولم يدّخر وسعاً من جهده ولا شيئاً من طاقته…

هناك، في ذلك الحين وتلك الأجواء، وأنا في معتزل عن صحبي… نطقت الشعائر! وسمعت هاتفاً منها ينادي:
أي خدّام سادة الخلق والبشر! بوركتم وبوركت جهودكم، ربحت الصفقة وأفلحت التجارة، سوف أدخر لكم كل إحياء ونصرة ودفاع عني، سترونه في قبوركم روح وريحان، من لحظة قبض أرواحكم، حتى دفنكم، وعلى مدى رقدتكم في رياض جنانكم، ثم في الحشر والنشر حين تبعثون، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، هناك سوف أتمثل لكم وأتجلى، بقسمات السعد والبشرى، وأوافيكم بوجه الخير والبسمة، وأتلقاكم بطلعة اليُمن والأمان…

ألقيت السمع ساعة، وشنّفت أذناي ما طاب لي، حتى خَفُتَ الصوت شيئاً فشيئاً وتضاءل، وكأنه يؤذن بارتحال.. فناديته:
إلى أين أيها الحبيب؟ ماذا بعد، أما من نُصح وتوجيه؟ أين تريدنا بعد هذا؟

استوقفه سؤالي فعاد ليجيب:
لن أثقل عليكم، ولن أفسد ساعة الأنس هذه بخطبة عتاب ومنشور ملامة، وعريضة إسداء نصح وموعظة.. ولكن اعلم وأبلغ صحبك، أن جلّ ما أريده هو الإخلاص، وبعض إتقان..
أريد أن ننقطع إلى مخدومنا، نحن وأنتم طرق ووسائل تنتهي إلى المولى عليه السلام، فأحسنوا السعي وأتقنوا الأداء…

🔵 لماذا ترفع صور ورسوم غير أهل البيت في حسينيات بعضكم؟ الحسينية بيت المولى وداره، فلماذا ترفع فيها صور غيره؟ وبهذه الأحجام الجدارية؟ لماذا لا تلبث الكاميرات وهي تلتقط وتسجل مشاهد مجلس العزاء أن تسلط المنظر على تلك الصور، وتميل عن المنبر والخطيب إليها؟!
ألا ترون المرجع الأعلى، وهو عالم رباني واقعي، حظر ـ على الرغم من مكانته وعظمته ـ رفع صوَره في المحافل العامة، فلماذا يتهالك آخرون على صور “مرجعهم” وهو مدّع مزيف؟! أعلم أنها عقدة ومركب نقص، فالكبير لا يحتاج إلى ترويج وإعلام، ولكن الصغار يستشعرون في ذواتهم الصَغار، فيلجؤون إلى الدعاية والإعلان، ويمزقون الصور ويرفعونها فوق صور بعضهم بعضاً!

🔵 لماذا يتحول الإطعام الذي أصله التبرك وتأمين زاد المؤمنين حتى يتفرغوا ولا ينشغلوا بغير العزاء، إلى بذخ وترف، وتنافس يحرج الفقراء وغير المقتدرين من أصحاب المجالس؟.. بأنواع من الشواء، وأصناف الحلويات مما لذ وطاب، تبذل في الطرقات وكأنها ولائم أفراح؟.. من هي هذه الفئة التي تؤسس للمبالغة في كل شيء وتدفع إلى الإفراط في جميع أنواع العزاء؟!
إن إكرام المعزين واجب وهو أمر حسن ومطلوب، ولكن اجعلوا لهذا سقفاً، ولا تسمحوا أن ينتقل بكم عن جوهر الإحياء والتبرك إلى المنافسة والمزايدة.

🔵 لقد كفيتموني أعدائي حتى أُرغمت أنوفهم وألحقت بهم هزيمة نكراء، ولكنني في ألم ولوعة من المبالغة والإفراط، وهو يصدر من فئة منكم ويقع بينكم معاشر المحيين والمعظمين لي!.. ولا سيما العبث في أشعار المراثي واللطميات، وكذا الفوضى في أطوارها وألحانها. هل ضاقت السبل وأغلقت الآفاق حتى تجعلوا سُوَر القرآن وآياته لطميات؟ هل سُدّت أبواب الطعن والتشنيع على الأعداء حتى نتفنن في استفزازهم ونفرش لهم بسط الجولة والصولة علينا؟ هل أصبح همكم أن تتميزوا وتجتذبوا الأنظار بأي ثمن؟ ثم لا تبالون بالشبهات وبما تحمّلونني من تشويه وإساءات؟!
أعلم أن جانباً من المبالغة هو رد فعل على الحرب الشعواء، ولكن أين دور الحكماء؟ لا تسمحوا لأحد أن يخرجكم من وقاركم وينقلكم إلى فوضاه وجهالاته، فهذه طريق الهلاك وأول خطوات الضلال، الزموا النمرقة الوسطى وانهضوا بالعدل، والزموا حدود الشرع، ولا تغفلوا عن كيد الشيطان، ثم لا تبالوا حتى تجعلوه همكم ومدار حركتكم فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.

🔵 لا تفسحوا للخطباء المرتزقة، الذين يتجرون ويتسلقون على منبر المولى، يسوّغون ويسوّقون ولاءات ضالة مضلة، ويروجون مرجعيات مزيفة باطلة، ويعبئون لأحزاب وجماعات ومنظمات… إن البيت لأهله والدار للمولى، ولولاه لما حظي هؤلاء بمستمع واحد! فإذا حشد المولى لهم المستمعين كفروا بالفضل وبطروا بالنعمة وصاروا يدعون إلى غيره ويدلّون على من يوالون دونه!..
هذه سموم تفتك بي وآفات تقضي علَيّ.
وها أنا أحذر وأتوعد! إن لم يتب المتاجرون المستأكلون، ويسارعوا لإصلاح أنفسهم وتغيير نهجهم، سوف أفضحهم وأسقطهم من أعين الناس.

🔵 أيها الشعراء الصغار مهلاً ورويداً، لا ترنوا إلى مجدكم بهتكي، ولا تبتذلوا الفن باسمي! ليس كل جامع للمعاني بأديب ولا كل ملفق للقوافي بشاعر، وبعض ما “يُنظم” هو إلى البعر أقرب منه إلى الشعر!
أيها الرواديد المبتدئون لا تجعلوا بضاعتكم الاستخفاف بي، اصبروا وتمهلوا، تدربوا وتمرنوا، تلمذوا وتعلموا، عسى أن تفلحوا يوماً، ويجد المولى فيكم خيراً، فيأخذ بأيديكم ويرفع المخلص المجيد منكم، فيرزقه المال والشهرة، ويهبه المجد والمحبة في قلوب الموالين، كل ذلك إذا آن أوانه وحان حينه، وهو في علم الله وغيبه، لا يقدمه إعجالكم، ولا يسرع به تلهفكم، بل لعله ذلك يصرفه عنكم!

🔵 إخواني الكرام، أريد الوقار والاتزان، والحكمة التي تضع الأمور في نصابها وتنزلها منازلها وتدرجها في مواقعها… امنعوا المتهورين من قيادة هذه النعمة المحسودة التي تحدق بها الذئاب، أصلحوا هؤلاء وروضوهم بالرشد، وخذوهم بالموعظة الحسنة وبالرفق والمناصحة، فهم منكم، وجلهم يتمتع بالإخلاص ويعيش الشوق للخدمة، فإن أبوا وكابروا، فاركنوهم جانباً وامنعوهم من الصدارة، فلا شيء أضر على هذه المسيرة من أحمق يريد أن ينفع فيضر…

ختاماً…
إنني أقتات من الصدق والإخلاص، وأنفاسي ترك المبالاة بما في أيدي الناس، والانقطاع لإرضاء المولى، وطعامي وزادي الحذر من المنافسة… فسارعوا إلى هذه تحظون بالعناية الخاصة، وتكللون بالنجاح والفلاح.

«طقسنة» “الأخبار” و«شرعنة» التزييف

من أخبث عمليات الإضلال والطمس الإعلامي التي يقوم بها التيار “الحداثي” الذي يناصب العقائد الدينية والشعائر الحسينية العداء تحت شتى العناوين، كعدِّها رجعية متخلّفة، أو غير منطقية ومخالفة للعقل، أو مشوِّهة للدين، أو أنها ملازمة للقعود وتحول دون الحركة والجهاد… السعي لإظهار أو الإيحاء بأن من يقف (بالفكر والفقه، وبالتوجيه والقيادة، والإدارة والحركة) خلف الجبهة التي يحاربون، هي الجماعة الشيرازية! وأن “الولائيين” و”الحسينيين” ينحصرون ويتلخصون في أتباع هذه الفئة أو المنقادين لها!

ولا يخفى أنها فرية “استحلاها” القوم واستساغوها! إن لم يكونوا هم وراءها، والذين دفعوا لها، لغاية في نفوسهم لا تغيب عن الأكياس، كما يظهر من المقالة الأخيرة التي نشرتها صحيفة “الأخبار” اللبنانية: “الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع”، لكاتب يدعى: عبدالله العلوي، والأخرى التي انتشرت كردٍّ عليها

إن تصوير الواقع وإظهار المشهد في المعركة التي تدور رحاها بين المؤمنين الملتزمين وبين الحداثيين المنحلّين، بصورة مزيفة تشكل قفزاً وقحاً على الواقع، ومصادرة فجّة للحقيقة.. شيء أشبه بفرية تاريخية سابقة أنزلها إعلام السلطة بـ “الرافضة”، روّجها علماء السوء وسوّقها الحقد الطائفي، بأن التشيع حركة شعوبية أسسها عبدالله بن سبأ! وأن لا خلاف بين الصحابة ولا نزاع، بل نسب ومصاهرة، وتبادل في إطلاق الأسماء، هذا ناهيك بنفي النص على الخلافة، وجحد تعيين أميرالمؤمنين عليه السلام في الغدير، وما إلى ذلك مما نرى ونشهد.

ليست هناك إحصائيات دقيقة أو استبيانات علمية تكشف حجم المرجعيات الشيعية (الأصيلة الحقيقية منها، والمدّعاة المزيفة)، ما يرسم نطاق نفوذها ومدى تأثيرها وسلطتها الروحية على الساحة، لكن يمكننا أن نسوق شواهد ونستدل بقرائن تكشف حجم التيار الشيرازي، إذا ابتعدنا عن الإعلام، وخلصنا عقولنا عن الاغترار بالانتفاخ والورم الذي تصنعه الفضائيات، وقرأنا الساحة بمعطيات موضوعية ومؤشرات تحترم عقول الناس…

فعلى سبيل المثال إقرأ المزيد

الشعائر والثورية بين الصميم واللصيق!

من أهم مواقع الخلاف بين الشيعة الملتزمين بالأصول العقائدية والشرعية، وبين تيار الحداثة والتطوير الديني المنفلت والمتحرر من أي قيد ديني وعلمي، في أمر الشعائر الحسينية… أنهم يرمون الشيعة والموالين بأداء تعبدي عاطفي يفرغ الشعائر من عطائها الرسالي، وبالتحديد: الثوري.
ويتمادى بعضهم فيعرّض بالباكين على سيد الشهداء واللاطمين والجازعين ولا سيما المطبرين، بأنهم من القاعدين الخانعين، وسمعت أحدهم، يتحامل ويرميهم بالفرار من الزحف وترك الدفاع عن حرم السيدة زينب عليها السلام، وسمعت آخر (في فيديو مُعد بالفارسية بحِرَفية وإتقان مخابراتي) يلعنهم ويشتمهم ويقسم بأن لا رجل في المطبرين!

والحقيقة أن هذا الخطاب يمكن فهمه وهضمه عندما يصدر من شخص مثل السيد حسن نصرالله (الذي لم يفعل ولم يخض في هذا اللهو، فهو في شغل وغنى عن هذا الاتجار!)، ومن على شاكلته من الثوار والقادة المجاهدين.. لكن أن يصدر عن شيخ لم يحمل في حياته سلاحاً، ولم يعرف جبهة وقتالاً، ولم يسجن أو يعتقل يوماً واحداً، ولم يُلاحق مرة، وما يزال يقضي حياته في رفاهية من العيش، وادعاً فاكهاً، يتسنم أكبر المناصب، ويتقاضى أعلى الرواتب، لا لكفاءة وعلم واستحقاق، بل لدور وضيع قذر، هو كل عطائه وجلّ ما قدّمه للثورة، يتمثل في كتابة التقارير الأمنية بحق منتسبي الحوزة العلمية في قم، وتخويف طلبة العلم العرب هناك وإرعابهم!… مثل هذا الشخص المتطفل المستأكل بالثورة، يرمي الحسينيين الولائيين بالجبن والقعود عن الجهاد.. هذا من هوان الدهر وعلامات آخر الزمان، ومنها حكم الصبيان ودولة الغلمان!

والغريب أنهم يعلمون جيداً أن مئات المجاهدين المرابطين لحماية حرم السيدة زينب عليها، من السوريين والأفغان والعراقيين وغيرهم، هم من المطبرين، بل قادة هيئات العزاء، وقد ارتحل كثير منهم شهداء وزفوا إلى الجنة وهم مضمخين بدماء الشهادة والتطبير معاً، فحازوا الفخرين وكللوا بالتاجين، عزّ الجهاد وشرف خدمة الحسين.

وإن فاتت القوم هذه الحقيقة، فكيف تعمى أبصارهم عن مئات آلاف الحسينيين في العراق، الذين لبوا نداء المرجع الأعلى السيد علي السيستاني للجهاد، ونفروا خفافاً يتصدون للتكفير والإرهاب، وهم جميعاً من القائمين بالشعائر الحسينية التقليدية وأصحاب هيئات ومواكب لطم وتطبير وإطعام وزيارة؟!

وعلى الرغم من كل ذلك، تجد أبواقهم الرخيصة تتجاهل هذه الحقائق وتعود لتسفه وتلعن المعزين ولا سيما المطبرين، وتفتري عليهم بأنهم ليسوا مجاهدين؟!

هل عميت الأبصار بعد البصائر؟! هل غلبهم الغل وقهرهم الحسد فما عادوا يبالون بالكذب والدجل؟! أم هي مدرسة قوامها هذا الأداء، فلا أدلة يملكون ولا بفكر يتمتعون، فلا حيلة إلا هذا النصب والتدليس والاحتيال؟!..

ثم تعال إلى دعاة الثورية والمنادين بتوظيف الشعائر لصالح خطاب ثوري… لتجد مهزلة تضحك الثكلى! فأنت لا ترى فيهم إلا مستظلاً تحت مظلة الطواغيت في بلدانهم، ومنهم وزراء ونواب وتجار وكتاب وأكاديميين، إن تفوقوا في شيء ففي الاتجار والانتهازية والوصولية! وهم جميعاً داخلين في صميم الولاء لحكومات الجور، منخرطين في أنظمتها غير الشرعية، منغمرين في الدنيا بأقذر صورها وأخس مظاهرها… فأين الخطاب الثوري لعاشوراء عن هؤلاء؟! كيف لأحدهم أن يحمل قلمه ويخط كل ذاك الهراء، وهو في صميم “القعود” ولم يمارس في حياته ـ ولا لمرة واحدة ـ فضيلة الجهاد؟! لست أدري، ولكنه الحديث الشريف: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

إن المثقفين والمعممين من وعاظ السلاطين وأعوان الظلمة، الداخلين في أنظمة الجور (بأشخاصهم أو أحزابهم أو مواقفهم)، المطأطئين رؤوسهم في ذلة وخنوع، ما بلغ بهم التخلي حتى عن سمة المعارضة الظاهرية، فدخلوا في تصنيف “الحكوميين” رسمياً.. ليس لهم إلا أن يصمتوا ويخرسوا، وإن أبوا فليأكلوا ما يملأ أفواههم ويشغل ألسنتهم ويمنعهم من هراء الفسقة وابتذال الفجار ومجون المتهتكين.

قد ينطلي الأمر على الشباب الذين لم يواكبوا الثورة الإسلامية في عصرها الأول، ولم يعيشوا ويدركوا منها إلا زمن الرخاء والأمان والراحة، ولم يعرفوا أحداً من أبطال النضال وفرسان الكفاح وحملة رايات الجهاد، من السابقين الأولين في هذا الحقل العصيب، فلم يملكوا حسها ولا استشعروا نبضها، ففقدوا القدرة على معرفة معالمها وتمييز رجالها، فاختلط عليهم الضبع بالسبع والهر بالأسد…

إلى هؤلاء المستضعفين أوجه خطابي: إخواني وأبنائي، اعلموا أن أغلب الذين ترون من حملة راية حرب الشعائر بحجة الثورية والعطاء الثوري لنهضة الحسين، كانوا ضد الثورة وضد شخص السيد الإمام الخميني! وفي أحسن الحالات كانوا يقفون على التل، ويقبعون على مقاعد المتفرجين… ولا يكتفون حتى يرجفوا في المدينة ويتربصوا بنا الدوائر!
لم يجاهدوا حين كانت سوح الجهاد مشرعة، ولم يساهموا في الثورة ولم يتحملوا شيئاً من أعبائها، لا كابدوا ولا قاسوا، لا عرفتهم جبهة ولا انخرطوا في خلية، لا نطقوا وهتفوا لنصرتها، ولا خطّوا وكتبوا في الدفاع عنها…
لذا تراهم يتاجرون بها ويبيعونها بأرخص الأثمان، ولا يبالون بسحق مكتسباتها وابتذال قيَمها، ولا يعنيهم تفرق أتباعها عنها وانحصار “أنصارها” في مداهن ومتملق وتاجر ومتسلّق..
ما رأيت شريفاً، وإن كان من المؤمنين بالسيد الخامنئي والخاضعين لسياسة إيران، إلا تنزّه وتجنب المس بالشعائر ما استطاع، كما لم أر أحداً من المنبرين لهذه الحرب القذرة وذوي الرايات في هذا الماخور الموبوء، إلا كان وضيعاً حقيراً من أدعياء الثورية، والمستأكلين بها…

في زمن نُفي فيه الصميم وقرّب اللصيق، وأُقصيت فيه الرؤوس وارتفعت الأذناب، ونُحّي الأشراف وترأس الحثالات… بات حقيقاً أن يُسقِط صفة الثورية وينفيها عن ابن بجدتها رخوٌ متميع رقيع لا ناقة له في الثورة ولا جمل، ويسلبها عن أهلها الذين نهضوا بها في زمن الحرب والتضحية والبذل والعطاء، هرٌّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد…
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.