هناك عظماء، علماء وقادة وزعماء، يبنون الشرف والعزة لشعوبهم، ويورثون الفخر والمجد أممهم.. كلهم كمال وبركة ونماء، يفيضون النفع مما امتلأت به أوعيتهم، وتتفجر ينابيع الخير من خصب وجودهم، وتجري أنهار الإحسان من جود نفوسهم، وتتدفق المكارم من كرم أياديهم وعميم فضلهم وجزيل عطائهم… والأمة على الموارد والضفاف، تنهل وتغترف، تشرب وترتوي.
وفي المقابل هناك أدعياء يتطفلون على هذه الأعتاب، ويتسلقون تلك المراقي وينتحلون المراتب والدرجات.. وهي ليست لهم، وهم ليسوا منها.
يتوغلون في هاتيك الربوع ويتنقلون بين تلك الحقول، كمتطفل التحق متسكعاً، ووارش قحم بلا دعوة.. والدعوات هنا تصدر عن الفضائل والمكارم والكمالات: العلم والفقاهة والعدالة والبذل والعطاء والكرم، ثم كرامة من الله، يرفع بها من يختار ويعز من يشاء..
إن الأدعياء معقّدون من المجد.. يرونه يجدّ السير ويحث الخطى نحو بعض خصومهم ومحسوديهم، وكأنه يطاردهم مطاردة، وهم يفرون منه فرارهم من النار والأسد! ويأبى إلا أن يلحقهم ويعلق بهم.. فيُـلبسهم خِلَعاً، ويخضع لهم فيطوّعونه كدابة يعلون ظهرها ويمضون بها أينما شاؤوا!
بينما هم يكابدون ويتهالكون، لعل وعسى أن يحظوا بموقع ويظفروا بشيء على هذا الصعيد، فيشار إليهم بين الناس ببصمة خلفوها في هذا الميدان، أو أثر تركوه في ذاك، فلا يمر عليهم التاريخ مهملاً متجاهلاً… لكن هيهات.
إنهم لا يعفون عن شين، ولا يتورعون عن قبيح، ويعمدون جاهدين إلى أية وسيلة ويلجأون لكل حيلة.. فإذا أفلسوا، عمدوا إلى التخريب، ولا يبالون!..
نعم، لا يكترثون أن يشوهوا ويهدموا شعيرة دينية أذهلت العالم وعقدت ألسنة الخصوم والأعداء، وقبل ذلك وبعده، شكلت الرافد الأعظم الذي يأخذ الشيعة إلى النجاة، ويفتح لهم سبل الصلاح ويشق دروب الفلاح، ويشرع أبواب الرحمة على مصراعيها.. أي زيارة الأربعين.
كما يفسد الخل العسل وتتسرب العُثّـة في الثياب والأرَضَة في البناء… قاموا بإدخال النزاعات السياسية إلى زيارة الأربعين، وأقحموا نزعاتهم الشخصية وأهواءهم وتحزباتهم، لتفسد خير الأعمال وتبطل أزكاها..
ملايين الشيعة يقطعون مئات الأميال، سيراً على الأقدام، وآخرون يتنافسون في استضافتهم ويتهافتون على خدمتهم، ويفتخرون أن يجعلوا ظهورهم بل وجوههم موطأ أقدامهم… في أجواء ترسم أجمل صور التواد والتراحم، وتضرب أروع الأمثلة في الأخوّة الإيمانية التي تجمع الشيعة على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأوطانهم ومدنهم… وفضاء مفعم بعبق الإخلاص وأريج العشق، وروحانية تنزع بهذه الدروب وتأخذها لتحلّق بها فوق هذه الدنيا وقوانينها، فكأنها طرق في السماوات وخطط في الملكوت، تسلكها أفواج الملائكة لا زرافات البشر، تقدم رعيلاً بعد رعيل، وتتقاطر من كل فجّ عميق، تجدّ السير لا على ضامر ولا راحلة، بل مشياً على أرجل وسعياً على أقدام لا تريد ولا تطلب إلا الثبات غداً على الصراط!…
في هذه العرصات الملكوتية والأجواء الإلهية… ترى الشيطان ينزغ والأبالسة يجهدون! لا يطيقون كل هذا النور والضياء، ولا يتحملون هذا الحد من السمو والارتقاء، فيتحركون ليتلوث المشهد… وأداته الأولى حزبيون يخوضون نزاعاً ويفتعلون صراعاً! هذا يلصق صورة وذاك يمزقها، هذا يرفع راية وذاك يقابلها… يهتفون لقادتهم ويلتمسون المجد لزعاماتهم، ويلبّون لرؤسائهم! فلا يجلبون لأنفسهم إلا العار، ولا يكثّرون إلا الضجيج.. والحجيج يهللون لمهوى أفئدتهم وصريخ نجدتهم وغاية مرضاتهم: لبيك يا حسين.
أيها المؤمنون الكرام، على اختلاف المشارب والمقاصد:
حتى ينتهي هذا المشهد المقزز، ولا يتكرر في الموسم القادم إن شاء الله،
تعالوا إلى ميثاق شرف…
تعالوا لنتعاهد أن لا ترفعوا بعد الآن صورة لزعيم (ترونه مرجعاً، ويراه أولئك دجّالاً!)، ولا راية لحزب، ولا علماً لدولة، لا أنتم ولا هم، كلنا نرفع راية واحدة هي الراية الحسينية وننادي بشعار واحد: يا حسين.
لا صور لزعامات، ولا أعلام لدول، ولا رايات لأحزاب ومنظمات، ولا صوت ونداء يرتفع فوق نداء: يا حسين.. رايتنا واحدة، وأنتم في سعة ومندوحة، ولكم الخيار أن تكون سوداء تحكي أحزاننا، أو خضراء ترمز إلى ساداتنا، أو حمراء تشير إلى ثار ننتظره جميعاً على يد إمامنا… ولكن يجب أن تكون دون اسم ولا رسم لأحد، إلا صاحب الذكرى وقطب الرحى. الحسين هو الذي يجمعنا ويوحدنا، وغيره يفرقنا ويشرذمنا، وقد جربتم ورأيتم بأم أعينكم، فهل تريدون للساحة الشيعية النزاع والشقاق، ونفي هذا الوئام والوفاق؟
في هذا تنافسوا وعليه تسابقوا، والمنافسة أمام الله وفي عينه لا أمامنا نحن، فنحن في شغل عن تسجيل النقاط بين بعضكم بعضاً، ولا يعنينا رصد “انتصارات” أحدكم على الآخر، بل في ضجر واشمئزاز من هذا التلويث والتشويه… الشيعة يريدون أن يحسنوا العزاء لإمامهم ولا يبالون بعد هذا بشيء.
تعالوا لنجعله ميثاق شرف بيننا والتزاماً أخلاقياً ننزل عليه جميعاً..
وبعد، فمن يرى الدعوة لزعيمه في صميم دينه ولا يمكنه أن يفصله عن سلوكه، فليبحث عن ميدان آخر، ولا سيما أن الطرفين لا تعوزهما الوسائل ولا ينقصهما المال، وهما يقفان على جبال منها، فلديهم إمكانيات فعالة وأدوات جبارة، ويملكون عشرات الفضائيات والمؤسسات الإعلامية والكوادر المتخصصة في صناعة الرموز، والمتفرغة للدعاية… فلا تفسدوا علينا عبادتنا وموئل وحدتنا.
هذا هو الإصلاح الذي يلزم ديننا (إن صحّ التعبير)، والتنزيه الذي تحتاجه شعائرنا.