يبدو أن هامشاً كبيراً من الحرب على الشعائر الحسينية قد حُسم ـ ولله الحمد ـ لصالح الحق وأهله، وأن إعلان الهزيمة الكاملة لأتباع “الحركة الإسلامية” من “التنويريين” الماسون، وما يتبع ذلك أو يلزمه من بُكم مرتزقتهم وخرَس عملائهم، لا يعيقه إلا ما يأخذهم من مكابرة وعزَّة بالإثم، تدفعهم أن يستمروا في إثارة الزوابع، وإن كانت في فناجين يرتشفون منها الغلَّ، أو رنين كؤوس يقرعونها عند تتبادل أنخاب الفسق، وصخب تضج به محافلهم من لغو وهذر، فلا ينقطع “الدفع” ويستمر “القبض”، ويبقى بيت الشيطان عامراً! سقطت الحرب المباشِرة وهُزم الجمع وولوا الدبر، وتوقَّف الحديث عن حرمة التطبير وسكنت المراوح الإعلامية التي تثير غبار الكذب والزيف، وتهيج عواصف الأحقاد وتغري بالعداوات بين المؤمنين…
لكن الذين دُحِروا بالأمس وصُدُّوا وطُردوا عن الأبواب، عادوا اليوم عبر النوافذ وتسوَّروا الجدران! فالحرب لم تنته ولا انقضى الصراع، ولعمري فهو باق ما دام أولياء الطاغوت وحزب الشيطان، الـمُنظَر إلى يوم يبعثون… إنما انتقل إلى جبهة جديدة، لعلَّها أخطر من الأولى الانفعالية الهوجاء، وكأنهم تعلَّموا من أخطائهم، فتجنَّبوا الصدام المباشر، وامتنعوا عن المواجهة بردٍّ ونقض، وعمدوا لأداء يقفز على الحال ويصادر الواقع بصمت ودون إثارة، ما يكفيهم الحاجة لاختلاق عناوين كاذبة، ويوفِّر عليهم الافتراء على الفقهاء بفتاوى مزيفة. ومَن يرصد حركة القوم ويتابع أنشطتهم وفعالياتهم، يلحظ وضعاً شمولياً وحالة تنبئ عن مركزية في القرار والإدارة، فهناك منطلق حركي واحد، يحكمه انضباط حزبي صارم، يسوقهم كقطيع ويقودهم كرتل وجمهرة… فكما صمتوا جميعاً عن التطبير وأخلوا جبهته، تراهم اندفعوا معاً لإسقاط الرثاء والبكاء، عبر بدعة محدَثة وهرطقة منكَرة: برامج محاضرات عشرة عاشوراء!
كأننا في موسم العزاء هذا العام، نتعرَّض لغارة مباغتة ونعيش غزواً منظماً للمنبر الحسيني، في ضربة ستُبطل ـ إن كتب لها، لا سمح الله، النجاح والاستمرار ـ جوهره الذي تظافرت عليه مئات النصوص الشرعية التي بيَّن فيها الأئمة الأطهار قولاً وفعلاً وتقريراً كيف يكون إحياء عاشوراء، لحقت بها سيرة المتشرعة وممارسة أبناء الطائفة جيلاً بعد جيل، ممتدة أكثر من عشرة قرون، لتخلق منظومة الشعائر الحسينية، وترسم موقع الدمعة والبكاء فيها. المنظومة التي شكلت الزخم الأصلي لبقاء التشيُّع، مما لا يمكن تفهمه واستيعابه، إلا بكونه خطَّة غيبية، وتحفة عرشية وهبها سيد الشهداء عليه السلام تقدِمة للفرقة المحقة، وعطيًّة للطائفة الناجية.
هذه المنظومة الحركية الفريدة التي لا نظير لها في دين ولا شبيه في مذهب، راح معممون حداثويون يهتكونها ويقوِّضون أصولها وأركانها، بكيد وخبث أو بحمق وخرق، لصالح بضاعتهم الكاسدة وتجارتهم الشيطانية ومقولاتهم الخاوية، وبما يشبه حمَّىً نزلت ببعضهم، حملتهم على الهذي ببرامج عاشوراء وعناوين محاضرات تضيِّع هذا الكنز العظيم وتبدِّد هذه التركة العزيزة! لجأوا إلى ما يدغدغ مشاعر عوام المؤمنين، ويأخذهم لشعور كاذب بالعلم وبثقافة جوفاء مضحكة. هكذا أنشأوا خطاباً مغرراً لا يشكِّل نقضه وردَّه قضية إلا لدى النخبة الواعية، فكيف لها بمواجهته ومحاربته في ساحة غلبها الجهل والدجل؟! ولعل الظروف تسمح بعد عاشوراء والفراغ من واجب المأتم والعزاء، للكشف عن الذي أفسح لهؤلاء! وبيان مَن الذي أسس هذا النهج وابتدع هذه الطريقة وبثَّ هذه الفوضى؟ ومَن الذي أمضى (من خفاء) وبارك؟ ولن يسلم من المحاسبة هنا كبير ولا صغير.
ماذا أصابكم يا قوم؟ ماذا حلَّ بكم ودهاكم؟ ألستم شيعة الصادق الذي قال: “مَن دمعت عيناه فينا دمعة لدم سُفك لنا، أو حقٍّ لنا نُقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، إلا بوَّأ الله تعالى بها في الجنة حُقباً”؟ ألستم شيعة الرضا الذي قال: “فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحطُّ الذنوب العظام”؟ وقال: “كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه”؟ أين هذا من مجالس الأطفال ومسرح العرائس ومحترفات الرسم وليالي الأنس بالقرآن وحملات جمع القمامة من الشوارع؟ وأين هذا من عناوين محاضرات: “الصحة النفسية وتحديات الحياة”، و”الطرق التربوية لمعالجة الإلحاد”، و”لماذا المثلية الجنسية”، و”سيكلوجية الانتماء”، و”استراتيجية الازدهار”، و”جدلية الإلحاد”، و”سوسيولوجيا التربية والتسلط الأسري”، و”القوى الناعمة لمراهقة أيجابية”، و”المرأة بين التمكين والتهميش”، و”نظرة على الاستشراق والمستشرقين”، و”المساهمة الاجتماعية في التنمية”، و”الازدواجية السلوكية”؟!..
جدب علمي وخواء عقدي، عجز عن فهم كُنه التشيُّع وإدراك جوهر الولاء، واهتزاز في الشخصية والبنية وسقوط في التربية أفضى إلى التماس غير سُبلنا، واستجداء المعرفة من غير مدرستنا، وتسوُّل الثقافة من غير مشربنا… إنها صولة مسكونين بعُقد الحداثة، وجولة مستشعري الصغار تجاه المثقفين، وحركة مهووسين بكل جديد، خلعوا أثوابهم واستبدلوها بأسمال رثَّة مهلهلة، وخرَق بالية لا تستر لهم سوأة ولا تداري عورة.
ترى، لماذا لا نرى هذا التجديد في شعائر المسيحية واليهودية، وحتى الديانات غير السماوية؟ فلا أحد ينادي بتغيير طقوس اليهود، فيعيب على تمايلات تراتيل الحداد، وما يحكي نقر الجدار أمام حائط المبكى؟ ودسِّ الرقع وقصاصات الأوراق بين شقوق الأحجار؟ ولا أحد يسخر أو يطالب المسيحيين بالكفِّ عن حمل سعف النخيل أو غصون الزيتون في موكب الشعانين مع بداية أسبوع الآلام؟ ولا أحد يستقبح فعل الهندوس في تقاذف الأصباغ في يوم “هولي”؟ ولا أحد ينادي على أهالي راجستان وكهنة معبد كارني بالتوقف عن إطعام الفئران واستبدال ذلك بالبذل على جياع البشر والإنسان!.. بل لا أحد ينادي على المسلمين بتطوير الحج! فيقول كفى طوافاً حول أحجار كان الكفَّار يفعلونه في جاهليتهم، وكفى محاكاة لحراك جرى قبل آلاف السنين لامرأة تطلب لرضيعها الماء، فصار السعي نسكاً وأصبحت الصفا والمروة من شعائر الله، وكفى هدراً لملايين الهدي والذبائح احتفالاً بنجاة ابن نبي فداه الله من رؤيا تأمر بذبحه أراد أبوه أن ينفذِّها؟!.. لا شيء من هذا وذاك هنا ولا هناك، اللهم إلا شعائر العزاء على سيد الشهداء! هذه فحسب ما يعوزها التطوير وتتطلب التجديد والتغيير!.. ثكلتكم أمهاتكم، وشُلَّت أيمان كتَّابكم، وعييت الخطباء منكم وخرس الناطقون بمقولاتكم.
ما زال مئات ملايين المسلمين من المغرب العربي إلى أقصى الشرق في ماليزيا واندونيسيا (وكل بلاد لا شيعة فيها)، يعيشون السنة الأموية، يتخذون يوم عاشوراء عيداً، يظهرون فيه الفرح والسرور، ويجهلون ما جرى فصعقت له السماوات، وضاع عليهم وما وقع فاهتز له العرش وتضعضع. وما زال النواصب وأرباب المنكرات ـ على سواء ـ يتبارون في منع الأحزان وبث الأفراح وتضييع القضية الحقيقية… ثم يأتي شيعيٌّ معمم، ليعين على اندراس ما أقام الحق، وتضييع ما حفظ الواقعة وخلَّد الذكرى، بمحاضرات جافة سخيفة تافهة تحكي سواد وجهه وقبح سريرته، يزعم تطوير الخطاب وتجديد الوسيلة، ولعمري، فلن يعدم بخيلٌ الحجة من رجحان التوفير والاقتصاد، ولا جبانٌ الذريعة في قبح التهور والاندفاع، وسيسوق لك هؤلاء من الذرائع والمبررات التي حملتهم على هذه البدعة ما يضحك الثكلى ويُبكي مبتهجاً مسروراً.
نحن على يقين أن الذي أهلك يزيد بن معاوية على طغيانه، والمتوكل العباسي على بطشه وجبروته، وصدام العصري على عتوِّه وغروره، سيسحق هؤلاء، الخبثاء اللئام منهم، والجهلة الطغام، ويفنيهم عن بكرة أبيهم، فلا يذكرون إلا بالعار والشنار، ولا ينالون إلا القبح والسوء، وستلحقهم الهزيمة والانكسار… لكنه هنا العمل بالأسباب وإسقاط التكليف وإتمام الحجة، وما يقطع الطريق على معتذر موغل في الإساءة والتشويه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.