لوثة التطوير وحمَّى المحاضرات

يبدو أن هامشاً كبيراً من الحرب على الشعائر الحسينية قد حُسم ـ ولله الحمد ـ لصالح الحق وأهله، وأن إعلان الهزيمة الكاملة لأتباع “الحركة الإسلامية” من “التنويريين” الماسون، وما يتبع ذلك أو يلزمه من بُكم مرتزقتهم وخرَس عملائهم، لا يعيقه إلا ما يأخذهم من مكابرة وعزَّة بالإثم، تدفعهم أن يستمروا في إثارة الزوابع، وإن كانت في فناجين يرتشفون منها الغلَّ، أو رنين كؤوس يقرعونها عند تتبادل أنخاب الفسق، وصخب تضج به محافلهم من لغو وهذر، فلا ينقطع “الدفع” ويستمر “القبض”، ويبقى بيت الشيطان عامراً! سقطت الحرب المباشِرة وهُزم الجمع وولوا الدبر، وتوقَّف الحديث عن حرمة التطبير وسكنت المراوح الإعلامية التي تثير غبار الكذب والزيف، وتهيج عواصف الأحقاد وتغري بالعداوات بين المؤمنين…

لكن الذين دُحِروا بالأمس وصُدُّوا وطُردوا عن الأبواب، عادوا اليوم عبر النوافذ وتسوَّروا الجدران! فالحرب لم تنته ولا انقضى الصراع، ولعمري فهو باق ما دام أولياء الطاغوت وحزب الشيطان، الـمُنظَر إلى يوم يبعثون… إنما انتقل إلى جبهة جديدة، لعلَّها أخطر من الأولى الانفعالية الهوجاء، وكأنهم تعلَّموا من أخطائهم، فتجنَّبوا الصدام المباشر، وامتنعوا عن المواجهة بردٍّ ونقض، وعمدوا لأداء يقفز على الحال ويصادر الواقع بصمت ودون إثارة، ما يكفيهم الحاجة لاختلاق عناوين كاذبة، ويوفِّر عليهم الافتراء على الفقهاء بفتاوى مزيفة. ومَن يرصد حركة القوم ويتابع أنشطتهم وفعالياتهم، يلحظ وضعاً شمولياً وحالة تنبئ عن مركزية في القرار والإدارة، فهناك منطلق حركي واحد، يحكمه انضباط حزبي صارم، يسوقهم كقطيع ويقودهم كرتل وجمهرة… فكما صمتوا جميعاً عن التطبير وأخلوا جبهته، تراهم اندفعوا معاً لإسقاط الرثاء والبكاء، عبر بدعة محدَثة وهرطقة منكَرة: برامج محاضرات عشرة عاشوراء!

كأننا في موسم العزاء هذا العام، نتعرَّض لغارة مباغتة ونعيش غزواً منظماً للمنبر الحسيني، في ضربة ستُبطل ـ إن كتب لها، لا سمح الله، النجاح والاستمرار ـ جوهره الذي تظافرت عليه مئات النصوص الشرعية التي بيَّن فيها الأئمة الأطهار قولاً وفعلاً وتقريراً كيف يكون إحياء عاشوراء، لحقت بها سيرة المتشرعة وممارسة أبناء الطائفة جيلاً بعد جيل، ممتدة أكثر من عشرة قرون، لتخلق منظومة الشعائر الحسينية، وترسم موقع الدمعة والبكاء فيها. المنظومة التي شكلت الزخم الأصلي لبقاء التشيُّع، مما لا يمكن تفهمه واستيعابه، إلا بكونه خطَّة غيبية، وتحفة عرشية وهبها سيد الشهداء عليه السلام تقدِمة للفرقة المحقة، وعطيًّة للطائفة الناجية.

هذه المنظومة الحركية الفريدة التي لا نظير لها في دين ولا شبيه في مذهب، راح معممون حداثويون يهتكونها ويقوِّضون أصولها وأركانها، بكيد وخبث أو بحمق وخرق، لصالح بضاعتهم الكاسدة وتجارتهم الشيطانية ومقولاتهم الخاوية، وبما يشبه حمَّىً نزلت ببعضهم، حملتهم على الهذي ببرامج عاشوراء وعناوين محاضرات تضيِّع هذا الكنز العظيم وتبدِّد هذه التركة العزيزة! لجأوا إلى ما يدغدغ مشاعر عوام المؤمنين، ويأخذهم لشعور كاذب بالعلم وبثقافة جوفاء مضحكة. هكذا أنشأوا خطاباً مغرراً لا يشكِّل نقضه وردَّه قضية إلا لدى النخبة الواعية، فكيف لها بمواجهته ومحاربته في ساحة غلبها الجهل والدجل؟! ولعل الظروف تسمح بعد عاشوراء والفراغ من واجب المأتم والعزاء، للكشف عن الذي أفسح لهؤلاء! وبيان مَن الذي أسس هذا النهج وابتدع هذه الطريقة وبثَّ هذه الفوضى؟ ومَن الذي أمضى (من خفاء) وبارك؟ ولن يسلم من المحاسبة هنا كبير ولا صغير.

ماذا أصابكم يا قوم؟ ماذا حلَّ بكم ودهاكم؟ ألستم شيعة الصادق الذي قال: “مَن دمعت عيناه فينا دمعة لدم سُفك لنا، أو حقٍّ لنا نُقصناه، أو عرض انتهك لنا، أو لأحد من شيعتنا، إلا بوَّأ الله تعالى بها في الجنة حُقباً”؟ ألستم شيعة الرضا الذي قال: “فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحطُّ الذنوب العظام”؟ وقال: “كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه”؟ أين هذا من مجالس الأطفال ومسرح العرائس ومحترفات الرسم وليالي الأنس بالقرآن وحملات جمع القمامة من الشوارع؟ وأين هذا من عناوين محاضرات: “الصحة النفسية وتحديات الحياة”، و”الطرق التربوية لمعالجة الإلحاد”، و”لماذا المثلية الجنسية”، و”سيكلوجية الانتماء”، و”استراتيجية الازدهار”، و”جدلية الإلحاد”، و”سوسيولوجيا التربية والتسلط الأسري”، و”القوى الناعمة لمراهقة أيجابية”، و”المرأة بين التمكين والتهميش”، و”نظرة على الاستشراق والمستشرقين”، و”المساهمة الاجتماعية في التنمية”، و”الازدواجية السلوكية”؟!..

جدب علمي وخواء عقدي، عجز عن فهم كُنه التشيُّع وإدراك جوهر الولاء، واهتزاز في الشخصية والبنية وسقوط في التربية أفضى إلى التماس غير سُبلنا، واستجداء المعرفة من غير مدرستنا، وتسوُّل الثقافة من غير مشربنا… إنها صولة مسكونين بعُقد الحداثة، وجولة مستشعري الصغار تجاه المثقفين، وحركة مهووسين بكل جديد، خلعوا أثوابهم واستبدلوها بأسمال رثَّة مهلهلة، وخرَق بالية لا تستر لهم سوأة ولا تداري عورة.

ترى، لماذا لا نرى هذا التجديد في شعائر المسيحية واليهودية، وحتى الديانات غير السماوية؟ فلا أحد ينادي بتغيير طقوس اليهود، فيعيب على تمايلات تراتيل الحداد، وما يحكي نقر الجدار أمام حائط المبكى؟ ودسِّ الرقع وقصاصات الأوراق بين شقوق الأحجار؟ ولا أحد يسخر أو يطالب المسيحيين بالكفِّ عن حمل سعف النخيل أو غصون الزيتون في موكب الشعانين مع بداية أسبوع الآلام؟ ولا أحد يستقبح فعل الهندوس في تقاذف الأصباغ في يوم “هولي”؟ ولا أحد ينادي على أهالي راجستان وكهنة معبد كارني بالتوقف عن إطعام الفئران واستبدال ذلك بالبذل على جياع البشر والإنسان!.. بل لا أحد ينادي على المسلمين بتطوير الحج! فيقول كفى طوافاً حول أحجار كان الكفَّار يفعلونه في جاهليتهم، وكفى محاكاة لحراك جرى قبل آلاف السنين لامرأة تطلب لرضيعها الماء، فصار السعي نسكاً وأصبحت الصفا والمروة من شعائر الله، وكفى هدراً لملايين الهدي والذبائح احتفالاً بنجاة ابن نبي فداه الله من رؤيا تأمر بذبحه أراد أبوه أن ينفذِّها؟!.. لا شيء من هذا وذاك هنا ولا هناك، اللهم إلا شعائر العزاء على سيد الشهداء! هذه فحسب ما يعوزها التطوير وتتطلب التجديد والتغيير!.. ثكلتكم أمهاتكم، وشُلَّت أيمان كتَّابكم، وعييت الخطباء منكم وخرس الناطقون بمقولاتكم.

ما زال مئات ملايين المسلمين من المغرب العربي إلى أقصى الشرق في ماليزيا واندونيسيا (وكل بلاد لا شيعة فيها)، يعيشون السنة الأموية، يتخذون يوم عاشوراء عيداً، يظهرون فيه الفرح والسرور، ويجهلون ما جرى فصعقت له السماوات، وضاع عليهم وما وقع فاهتز له العرش وتضعضع. وما زال النواصب وأرباب المنكرات ـ على سواء ـ يتبارون في منع الأحزان وبث الأفراح وتضييع القضية الحقيقية… ثم يأتي شيعيٌّ معمم، ليعين على اندراس ما أقام الحق، وتضييع ما حفظ الواقعة وخلَّد الذكرى، بمحاضرات جافة سخيفة تافهة تحكي سواد وجهه وقبح سريرته، يزعم تطوير الخطاب وتجديد الوسيلة، ولعمري، فلن يعدم بخيلٌ الحجة من رجحان التوفير والاقتصاد، ولا جبانٌ الذريعة في قبح التهور والاندفاع، وسيسوق لك هؤلاء من الذرائع والمبررات التي حملتهم على هذه البدعة ما يضحك الثكلى ويُبكي مبتهجاً مسروراً.

نحن على يقين أن الذي أهلك يزيد بن معاوية على طغيانه، والمتوكل العباسي على بطشه وجبروته، وصدام العصري على عتوِّه وغروره، سيسحق هؤلاء، الخبثاء اللئام منهم، والجهلة الطغام، ويفنيهم عن بكرة أبيهم، فلا يذكرون إلا بالعار والشنار، ولا ينالون إلا القبح والسوء، وستلحقهم الهزيمة والانكسار… لكنه هنا العمل بالأسباب وإسقاط التكليف وإتمام الحجة، وما يقطع الطريق على معتذر موغل في الإساءة والتشويه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

‎القلب الأسود في الدولة الدينية

عندما يغلب سوء السريرة وفساد النية، ويستولي الشرُّ على قلب امرئ ويغمر القبحُ باطنه، يظهر في وجهه خزياً وللملأ فضيحه، وها قد سوَّد الله وجه قصير… وعلى الرغم من العبارة المضحكة والطرفة السمجة التي يسوِّق بها لسيِّده ويستخف بها عقول العوام: “السيدان العليان الحسينيان”، فما إن حكمت الفرصة ليطعن في الظهر، حتى بادر، ولم يترك ما سنح دون توظيف مريض واسخدام مبتذل، فنال من حوزة النجف الأشرف وتطاول على المرجع الأعلى، وراح يعيِّر العراقيين بخيار الدولة المدنية ويشمت بهم لترجيحها على الإسلامية.

هكذا نزى على منبر الوعظ، واستوى على كرسي النصح والإرشاد، وراح ينظِّر للعظماء ويوجِّه الأشراف، وقد قدَّم اسمه ووقَّع على بيانه بـ “سماحة”! ولربما ألقت عاهرة محاضرة في العفة، ودعت راقصة إلى الحياء والحشمة، وردَّدت قين:

“أنا التي أمشي كما يمشي الوجي، يكاد يصرعني تغنجي، من جنة الفردوس كان مخرجي”…

لا يخفى أن الرجل بين غلٍّ يضطرم على المرجعية، وحقد يتفجَّر على الأصالة، وعلى كل ما يَفقد ولا يفتقد، وبين صفاقة وصلافة لا تكون إلا في ميِّت الإحساس ومنعدم الضمير والذمة، مما ملأ بطنه من حرام، وعاقبة سوء من فرط ما أساء، فما عاد يبصر نوراً ولا يعي حقاً أو يرشد صواباً.

بين الدولة الدينية ودولة الهر قصير عموم وخصوص من وجه، يلتقيان في الاسم والعنوان، ويفترقان في كلِّ ما خلا ذلك وعداه (اللهم إلَّا ما يخدم بقاء الإطلاق واستمرار الشبهة في أذهان العوام)، ولولا ذلك لظهر التباين، وحكم به القاصي والداني…

والحق أنك، بعد الإسم، لا تجد في إيران أندية قمار ومواخير بغاء ومرابع ليلية وخمارات علنية، ولا تجد سافرات… ولكن هناك رقص “شرعي”، وموسيقى وغناء “شرعي”، ومتبرجات أشد فتنة من السافرات! وفي إيران تمارس المرأة جميع أنواع الرياضة، فتركض وتهرول وتتدحرج وتستلقي على الأرض، ولكن بثوب ساتر، فبماذا اختلفن عن الراقصات في ملعب محافظة كربلاء؟ غير وجود الحرية التي تسمح بالاعتراض هنا، والبطش والاستبداد الذي يكبت ويقمع هناك؟!

في إيران يحاربون الله ورسوله جهاراً، فالنظام المالي والمصرفي ما زال يرتكز على الربا، ضاربين قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله” عرض الجدار. وفي إيران تمييز عرقي يقدِّم الفارسي على غيره، والإيراني على “الغريب”، فالأرمني المسيحي أو البلوشي الوهابي الذي يحمل الجنسية الإيرانية هو أشرف وأعز، في نظام الجمهورية الإسلامية، من العراقي والبحراني الشيعي، ولا تسل عن الأفغاني! في إيران اليوم قهر ودكتاتورية تناهز، ما كان في عهد الشاه، فالثورة أكلت أبناءها وما زالت تطارد أصحابها، فهذا الشيخ الكروبي رئيس مجلس الشورى والسيد ميرحسين الموسوي رئيس وزراء الخميني، الذي قاد الجمهورية في أحلك ظروفها، وخرج من السلطة كما دخلها، طاهر الذمة نقي الثوب، عجزوا أن يتهموه بدانق سرقه أو تومان أثرى به… رهين معتقله وإقامته الجبرية، لمجرد طعنه بنتائج الانتخابات وأن فوز خصمه أحمدي نجاد كان بتزوير فاضح! أما الإنجاز الأكبر للدولة الدينية، فهو مكان إيران في جدول الفساد ومؤشر الشفافية العالمية، فقد جاءت الجمهورية الإسلامية في الترتيب الحادي والثلاثين بعد المئة (١٣١) عالمياً من بين 176 دولة!

وبعد، فالدولة الدينية التقت مع الاستكبار العالمي في إنهاء استقلالية الحوزة العلمية الشيعية وجعلها تابعة للنظام الحاكم، في خطوة عجزت عنها الملكيات الصفوية والقاجارية والبهلوية! وهي تمارس تضييقاً غير مسبوق على المرجعيات، وتقوم بالتنكيل بأيِّ طالب علم يأبى سيطرة الدولة على الحوزة وإخضاعها لإرادتها وإدارتها.

والدولة الدينية التقت مع العلمانية الكافرة، أي حزب البعث العربي الإشتراكي في محاربة الشعائر الحسينية، وقد قمعت المطبرين بوحشية، وما زالت تضيِّق على المعزين، وتعمل على توغل المخابرات في الهيئات والحسينيات، تسعى من خلال ذلك لتشويهها والإساءة إلى الشعائر، تمهيداً لإنهائها بجميع أشكالها.

والدولة الدينية جنَّدت الحبتري وحب الله وعشرات الفرق والمجاميع ومراكز البحوث والدراسات التي ترعاها وتمولها، وجيشاً خفياً وذباباً ألكترونياً، زودته براجمات وقذائف وصواريخ ومعاول، ليهد البنية العلمية الشيعية ويقوِّض قواعد استنباط المعارف الدينية، لصالح نهج هجين ومدرسة لقيطة وضع أساسها سيد قطب وحسن البنا.

هذا في الدفع بالنقض، أما في الحل… فإن الشعب العراقي لم يطلب الدولة المدنية بقدر ما رفض ولاية الفقيه المزوَّرة، ولم يتبنَّ النظام العلماني بقدر ما كان عاقلاً في إدارة معركته، حكيماً في تدوير زوايا صراعه مع أعدائه، حين أجاد قراءة إمكانياته، وأحسن تقدير قوة أعدائه، فنظَّم الجبهات، وتراجع عن الدنيوية (المنهوبة المستلبة على أية حال) لصالح الدينية التي دونها الدفاع والجهاد، عسى أن يكسب حسنات الدولة المدنية ويوظفها لإنعاش الشعب وإخراجه من ظلم واضطهاد تراكم عليه أربعة عشر قرناً. ولا يعنيه، بعد هذا أن يتنطَّع فاسق حاقد ويعيب عليه خياره..

وطالما كانت حركة الدجال عوراء، تطرح نصف الحقيقة…

ولو أنصف لعاب حزب الله، أم تراه لا يدري لأيِّ أنظمة الحكم يدعو الحزب؟! هل لحكومة دينية أم مدنية؟ وهل هو في طور الدعوة والفكرة أم تجاوز ذلك إلى العمل والانخراط الفعلي في الدولة المدنية؟! ولو كان من “السابقين” لسجَّل المفارقة وعاش تراجع الحزب، في أدبياته كما في واقعه، عن مقولة الدولة الإسلامية، وعن “لبانستان” منذ أمد بعيد! حتى أنه خذل حراكاً شعبياً عفوياً للنهي عن المنكر وقع منذ أشهر في “البازورية”، مسقط رأس أمينه العام، حين نهض أحدهم لمنع بيع الخمور وترويجها، فوقف حزب الله على الحياد، بل فيه من أدان الحراك على تجاوزه القانون وتعديه على الحريات!

وقد بلغ الحزب من “المدنية” أن جمَّد نشاط أو عضوية أحد نوابه (نواف الموسوي) لأنه تطاول على نائب حزب الكتائب اللبنانية، ابن بشير الجميل، فكأنه استعاد ذكريات التموضع الديني والإسلامي، فعوقب لصالح الوطني والمدني!

كما كان الذباب الألكتروني في جيش الدولة الدينية يرمي المرجع الأعلى بالقعود عن الجهاد والخيانة والعمالة للإنكليز والأمريكان في عدم الاصطفاف مع المقاومة المسلحة… فخمد وخرس بفتوى الجهاد حين حان أوانه الحقيقي وجاء مورده الصحيح، كذلك سيخرسون وتخمد أنفاسهم لما تعلو صرخة الشعب الإيراني الذي يتمنى وقف الإتجار بالدين وإنهاء تشويه المذهب، ويحلم بإنهاء الاستبداد الديني الذي سلَّط عليه هذه الحثالات، من سماسرة البلاط وعملاء المخابرات.

إباحية التشيع السياسي

من السذاجة بمكان أن يحسب أحدٌ أنَّ ما يجري في الساحة الإيمانية الشيعية من فوضى ومحدَثات، على صعيدي العقائد والأفكار، والسلوكيات العامة والممارسات، هو تعثُّر عارض واستثناء عابر تمرُّ به الساحة من أزمة مفاجئة ألـمَّت بها وأمر طارئ وقع لها، ظهر في أداء مريض هنا، وسلوك شاذ هناك، وارتباك وفوضى غمرت الأجواء وطغت على أصل الأداء…

حفل غنائي ومهرجان راقص في افتتاح دورة رياضية، يستبيح حرمة واحدة من أقدس مدن الشيعة وأكثرها خفراً وأعظمها شأناً: كربلاء… يريدون أن ينتزعوا شجواً وكمداً اندك في “كربها” أبداً، وينهوا لوعة وجوى ما انفك في “بلائها” سرمداً، وكأن جرحها النازف قد رقأ واندمل، وقلبها النَّصِب الدنِف قد عوفي وبرئ. أم تراهم حسبوه قد أمسك أن يضرب ويخفق؟ فما عاد يبعث في شيعته النبض، وبرجاء حياته حييت قلوبهم؟ وبضياء نوره اهتدى الطالبون إليه منهم؟ ومن قبل نقلت وسائل التواصل الاجتماعي بثاً مباشراً لداعر سافل، تعدَّى فيه على شخص الإمام الكاظم عليه السلام، بما بلغ الكفر البواح، وذلك من مقهى يقع في مدينة جده أميرالمؤمنين عليه السلام. وفي لبنان يقيمون حفلاً غنائياً صاخباً في يوم استشهاد الكاظم عليه السلام بلا مبالاة ودون أدنى اكتراث، وهناك دعوة لتكرار الحفل في ليلة استشهاد الإمام الباقر أيضاً… وهكذا تمضي المناسبات المقدسة الحزينة، لتنقلب أفراحاً، وفي أحسن الحالات ندوات ومحاضرات، وبرامج تثقيفية وأنشطة اجتماعية من قبيل تعليم المؤمنين وتدريبهم على قواعد الإسعاف، أو تلقي دروساً في الطاقة الإيجابية والسلبية، وفي أحسن الأحوال أو أسوئها (لست أدري، هل اللبس الشيطاني يغلب هنا أم التخفيف من القبح ببديل شريف) تكون حلقات القرآن ودروس تعليم التلاوة والتجويد، أو أي شيء يصرف عنوان العزاء ويحول دون الحزن والرثاء والبكاء، لتتحول فجعة عاشوراء ورنَّة العرش وصرخة تصكُّ سمع الملكوت، إلى أوبرا تحكي “تراجيديا شيعية راقية”، بل “ميثولوجيا” تدرج الحدث في الأساطير وتسطره في الخرافات، فتلقي “الحداثة” عصاها ويستقر بـ “التنويريين” النوى، كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر، فقد أضناهم هذا الترحال الطويل، وآن لهم أن يلتقطوا أنفاسهم ويستريحوا شيئاً، بعد أن حققوا وضعاً جديداً للواقع الشيعي، ينسلخ به عن حاضره ويتنكَّر لماضيه! ولا أبرِّئ بعض المؤمنين الحسينيين من المسؤولية، ممن عمد لأداء انتهى بهم للانخراط في هذه المؤامرة من حيث لا يدرون، ومشاركة القوم جريمتهم وهم لا يشعرون! حين سمحوا لأنفسهم بالاجتهاد، وتطوير أنماط العزاء، خارج الأصالة الموروثة في الشعائر الحسينية، فأحدثوا وابتدعوا، ما فتح الباب لهؤلاء وأفسح لهذا الفساد والإفساد، فما دام التجديد والتطوير مباحاً، فليُقم كلٌّ الذكرى ويُحيها كما يرى ويشاء!

وقبل هذا الفجور، والسلوكيات المارقة والأفعال المتهتكة الماجنة، كانت هرطقات وزندقات، أداء “علمي” واتجار فكري، أسقط التراث (من أحاديث معصومة ونتاج علماء)، واستباح المسلَّمات (من عصمة الإمام وعلمه، إلى ميلاد المهدي وظهوره بالسيف، مروراً باعتماد عدالة الصحابة والعمل بالمصالح المرسلة)… خلَط ودلَّس وكذب وافترى، وراح في الدجل وتسفيه العقول وخطاب العوام ما شاء له الشيطان، فلم يقصِّر “الحبتري” في استدراك ما فات “فضلة الشيطان” حين عاجله وسبقه عليه الموت، ولم يوفِّر ”الإصلاحيون” شيئاً مما نادى به الملحدون ورفعه العلمانيون.

علينا أن نعي، ونقف ببصيرة على حقيقة ناصعة جليَّة، هي أننا أمام مرحلة جديدة وطور متقدِّم بدأت تدخله الحركة الإسلامية، وأنها بصدد أخذ الواقع الشيعي والانتقال به معها، إلى حيث تذهب وتتحوَّل, وهي في العراق وإيران ولبنان، ومن بعد في بلاد الخليج، إنما تدفع ثمن قبولها في “المنظومة”، والموافقة على “منحها” السلطة، أو تبذل كُلفة إصدار ترخيص ذلك وإجازته، وأنها تقدِّم “الرسوم” المقررة لحصولها على “جواز” أو “سمة” دخولها “النادي” وانتسابها لـ ”المحفل”. إنها ـ بهذا الأداء ـ تستصدر شهادة الاعتراف بها، وتجتاز “الاختبارات” اللازمة لذلك، وهي ”تتكيَّف” بما يجعلها جزءاً منهم… كل ذلك من ديننا وعقيدتنا، وعلى حساب شعائرنا وشريعتنا!

كل ما تراه من فعل وحراك في نطاق “تحرير” المرأة، وإقحامها في ميدان العمل من جميع أبوابه، وإدخالها في النشاط الديني والاجتماعي والسياسي بكافة أشكاله، والعبث في قانون الأحوال الشخصية من ميراث وحضانة وتمكين وقوامة، والتحايل على الأحكام الشرعية في الخدر والحجاب، ونداءات المساواة في الحقوق والواجبات، هو ضريبة وثمن لا بد أن يُدفع، وإلا فلن يجتاز الامتحان وينجح في الاختبار مَن يريد اللحاق بركب الأشرار!

وكل ما تراه من حماية للحبتري وجهود لتسويقه، ومساع للتطبيع مع فضلة الشيطان، بدأت من لحظة موته وساعة حمل جنازته، وما زالت قائمة، وما يظهر بين فينة وأُخرى وينتشر من أفلام ومقاطع لمعمم يقود الشباب في تمارين رياضية ويعلِّمهم المصارعة، وآخر يشارك في مسابقات لهوية، وثالث يجمع القمامة ويكنس الطرقات، ورابع تلتقط معه النساء صوراً (سيلفي)… وكذا ما تراه من تخلٍّ عن الحزن والعزاء، ودخولٍ في الفرح والبهجة، ومسايرة للثقافة الغربية أو غير الدينية في اللهو والطرب الغناء، وتدليس يصرف المؤمن عن المعاني الحقيقية للرحمة الإلهية ويُلبس عليه فيها، حين يُغفِل موارد الغضب والنقمة الربانية، وكذا عرض “اليسر” في الدين تسيُّباً وتهتكاً وإباحية، وتسويق الاختلاط والعلاقات المحرمة تحضُّراً ومدَنية، وتناول الميتة والشبهات رُخصة وسعة، وما إلى ذلك من معالم الأداء الحداثوي الذي تنهض به الحركة الإسلامية الشيعية وتقوم به بمختلف الطرق والوسائل… هو جزء من الصفقة، وحصَّة من الثمن الذي عليها أن تدفعه، لتُقبل في “المنظومة” وتُدرج في اللائحة، فتدخل في الحكومات والوزارات والبرلمانات، وتحظى بنصيبها من السلطة وما يترتب على ذلك من جاه ومال، فقد نشأت في تعاليمها وثقافتها، وترعرعت في عقائدها على قيم الدنيا ومرتكزات العيش، مما لا يطيق النبذ والإقصاء، والإهمال والانزواء، والاستخفاف بفكرة الانشغال بالآخرة عن طلب الأولى، واستهجانها وإن حكمت سيرة أئمة الهدى عليهم السلام والصالحين من أتباعهم على مدى التاريخ…. وما تراه من حرب عسكرية أو أمنية تطال الحركة الإسلامية هنا، وحصار اقتصادي ينال منها هناك، وضغوط ومناكفات لا تكاد تنقضي وتنفك، هي مناورات وتكتيكات، وضرب من المفاوضات لزوم عقد الصفقة وإبرام الصيغة النهائية للاتفاق، الذي يحدد الحصص والأحجام، ويرسم النطاقات الممنوحة والمساحات المبذولة.

باختصار شديد، القوم عازمون على مواكبة معطيات العصر ومفردات المدنيَّة، وقد فرغوا من النزول على شروط الماسونية، وهم على استعداد لليِّ عنق العقيدة والشريعة ـ حتى الدق والكسر! ـ في سبيل هذا التماهي والمواءمة، بما يرضي القوم عنهم ويحقق لهم الحضور الذي يرجون ويتطلعون.

هذا ما وقع من قبل وجرى على المسيحية في عصر النهضة، وانتهى إلى إحداث مذهب جديد باسم الإصلاح الديني (البروتستانتية)، ولم يحسم أمر الدين في واقعهم وتستقر مجتمعاتهم على شكل “مرضي” عنه، إلا عندما نجح أرباب النهضة ورجال التنوير في اختراق الكنيسة (الفاتيكان)، والنفوذ في قمة الإكليروس والبابوية وشخص الحبر الأعظم… وهذا ما كان من حال الزيتونة والأزهر، ولم يبق إلا النجف الأشرف، ورجال لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة في قم المحتلة!

وما زال الرجاء في رحمة يستنزلها الوحيد الخراساني والصافي الكلبيكاني حين يخرجان حفاة في موكب عزاء الزهراء، والأمل في عناية يلتمسها السعيد الحكيم حين يدفع عربة لمعوَّق في طريق زيارة الأربعين، ثم الرهان على مرجع أعلى رسم بقاني الحمرة نطاقاً حول النجف الأشرف، لا يسمح لوارش حداثي أو متوغل تنويري أن يدنو من أسس الاستنباط وطريقة بناء المعارف الدينية في مدرسة آل محمد.