أفلام بن جدو

في سياق الحرب الإعلامية المحتدمة بين السعودية وإيران، وقد راح كل طرف يقلِّب دفاتره القديمة ويبحث عن حربة يطعن بها خصمه وورقة يدين بها عدوَّه، بثَّت قناة الميادين الإيرانية فيلماً تسجيلياً أنتجته، يتناول حادثة انفجار بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت عام 1985 بالتوثيق والتحليل، وفي المقابل ستبث الـ MBC السعودية قريباً فيلماً حول فجائع قمع الثورة الخضراء التي أعقبت انتخابات 2009 في إيران.

وفيلم “نجا” يمثل ـ أول ما يمثل ـ رقماً مبتذلاً في الدجل، ولوناً مقيتاً من ضروب العبث بدماء الأبرياء الذين قضوا في تلك الفاجعة الأليمة شهداء، وتوظيفاً رخيصاً لتلك الجريمة الفظيعة النكراء، ثم سقوطاً وفضيحة كبرى على صعيد حقائق التاريخ، والأخلاق والالتزام، والمهنية الإعلامية، وأصدق القول أن التاريخ تكتبه الحكومات بأقلام عمالها، وأضاف: وتسجيل المرتزقة وفذلكة المستأكلين على موائدها.

وقد وقع المعدُّ في مشكلة أسقطت عمله، ومعضلة أزرت بإنتاجه، حين عجز عن معالجة ازدواجية وتناقض عاشه الإخراج بين الشخصية المفترضة للضحية، الموافِقة لدعوى الفيلم ومرتكَزه، ومقتضى هدفه ورسالته (إدانة السعودية بمحاولة اغتيال فضل الله)، أي الثوري المجاهد، والعنيف المناضل، الذي أسس حزب الله ورعاه، ووجهه للعمليات الإستشهادية، وقاده لأداءٍ صرع مئات من عناصر المارينز، وخطف عشرات من الأجانب، أو ـ في الأقل الأدنى ـ بارك هذه العمليات ومثَّل المرجعية الدينية ووفَّر الغطاء الشرعي لها. وبين الشخصية الأُخرى التي تصوِّره رجل إنسانية ومشاريع خدمية رعوية، وتعرضه مسالماً يرفض العنف والقوة، وتسوِّقه حوارياً منفتحاً، ومفكراً متحرراً، بل متسيِّباً، لا يحمل أية أصالة ولا يمثل أية أصولية، ولا يلتزم بأدنى حدود التعاليم والمثُل، ولا تقيِّده أية مبادئ وقيم، ولا حتى شريعة أو طريقة، بل هو نهج مبتدع، قوامه صيغة حركية غاية في البراغماتية والتلوُّن، ما لا يبقي على شيء من الدين، إلا اسمه، ومن الحكم الشرعي إلا شكله ورسمه! كان فضل الله بأُطروحته (المستلهمة من حزب الدعوة) وسيرته العملية (المتماهية مع حركة الإخوان المسلمين) يشكل النقيض والوجه المعاكس للإسلام الذي حمله الخميني، ويمثل البديل “المعقول” الذي يسوّق له الغرب، وتتقبله العلمانية، وتريده دوائر المخابرات الكبرى، مقابل الخمينية ومدرسة الثورة الإسلامية التي كانت تواجه (آنذاك) العالم بشرقه وغربه، وتحارب جميع الأنظمة الحاكمة والمتسلطة على الشعوب المستضعفة، وتعمل على إسقاط كل المنظومات السائدة، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية!

وبن جدو اليوم يعيد فتح صفحة طويت، ويجدد صفقة خسرت، ويجتر أداءً سقط فيه الإعلام الغربي من قبل فتركه إلى خيار آخر…

لقد سعى الإعلام الغربي في بداية الثمانينات ليصور فضل الله مجاهداً، ويجد له موقعاً متقدماً في الساحة، ولا سيما قيادة حزب الله، الذي كان في خضم فوضى التأسيس، وارتجال المواقف، وتلقائية السياق في ذاك الحين، ما يوحي بفوضى، ويعكس تسيُّباً يسمح بنفوذ الرجل وتبوُّئه مقام قيادة الحزب، وبالتالي إمساك الغرب ومخابراته بخناق هذا المشروع الجديد، فإما خنقه ووأده، أو إطلاقه تحت رعايته وإدارته (كما فعل مع القاعدة وداعش).. لكن الأحداث لم تسعف هذاالخيار، والرياح جرت بغير هذه الآمال، فانقلب الأداء سريعاً إلى الجبهة الأخرى وراح يستميت في منع القيام والتأسيس، ويمضي في الحرب والتقويض.

وما لم يقله الفيلم، مما كان يلمسه بالعيان ويدركه بالوجدان كلُّ من عايش تلك المرحلة، أن فضل الله كان يشكِّل العائق الأكبر والمانع الأول أمام انطلاق حزب الله وقيامه! وقد وقف سداً منيعاً أمام الترويج لمرجعية السيد الخميني ودخول المؤمنين اللبنانيين في تقليده، أو انخراطهم في تشكيلات حزب الله وانتظامهم في خلاياه. وفي حين حرَّر الشيخ علي الكوراني المجاميع التي تتبعه وأعلن انحلال حزب الدعوة ودعاهم للانخراط في التشكيلات الجديدة والناهضة تحت مسمى حزب الله، وكتب في ذلك ونظَّر، ونشر “طريقة عمل حزب الله”… تمسَّك فضل الله بأتباعه وتشبَّث بالمجاميع التي كانت تحت إمرته (ولا سيما اتحاد الطلبة)، وأبى أن يفرِّط بارتباطه ودوره القيادي مع الكوادر والعناصر العاملة في بعض أجنحة الدعوة. لقد كافح مستميتاً للحفاظ على كيانه، حتى إذا اضطُر وأُكره، تحت ضغوط تمادي المد الثوري، واكتساح التيار الخميني، ما كاد أن يجرفه ويودي به.. انحنى للعاصفة وسبح مع الموجة، وأمر أتباعه بالنفوذ وكلَّفهم التوغل! فقد كان يخطط منذ ذلك الحين ويعدُّ لمشروعه الخاص ومملكته الشخصية. ومن هنا كان يهزأ بمقولة الشهيد الصدر ويسخر من دعوته : “ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام”، وكان يعزوها إلى ظروف الحصار التي أزرت بوعي الصدر وسلبته القدرة على قراءة حكيمة للواقع، معبراً تارة بأنها دعوة لعبادة الشخص وتعظيم ذات الخميني، فطرح في المقابل فكرة ومقولة أنه مع “خط البطل، لا بطل الخط”، وأُخرى بأن حزب الله مشروع تخريب ودمار، وموت وهلاك، لا بناء فيه ولا تخطيط ولا مستقبل، ومن هنا فلا حياة له ولا استمرار.

ولعل الجيل الجديد، لفرط التغييب وسطوة الإعلام وغلبة التلقين وطغيان الانقياد، يستغرب أن تطويع الرجل، أو تحييده وإزاحته عن طريق نهضة حزب الله، وإنهاء منازعاته وإثارته للفتن، اقتضى في بعض المراحل واضطر ذوالفقار إلى أن يتعامل معه بالقوة ويتناوله بالزجر والتقريع وليِّ الأُذن، ولزم في مراحل أخرى، أن يُفسَح له ويغض الطرف عن استيلائه على أموال المقاومة، حين كان يأتي المغترب مغتراً بالاسم والعنوان، ليلتقيه ويسلِّم عليه، ويسلمه تبرعه للمقاومة، التي كانت تعيش ضنكاً وعوزاً شديداً، فيستولي الخؤون على الملايين بحجة أنه يشكل المقاومة المعنوية، وأن بث الفكر والوعي هو جبهة مقاومة أيضاً!

الرجل الذي صوَّرته قناة الميادين الإيرانية بطلاً مجاهداً تحاول السعودية تصفيته، كان في الحقيقة جباناً رعديداً، لم يعش الجهاد في حياته كلها لحظة، ولم يعرف التضحية مرَّة! لا في عراق البكر وصدام، ولا في لبنان المارونية السياسية، لا في نفسه وشخصيته، ولا في أبنائه وذريته، لم ينله كلْم من أنظمة الجور وأعداء “الحركة الإسلامية”، ولا رأى معتقلاً أو سجناً أو عقوبة أنزلته بها الحكومات الكافرة التي ينظِّر لحربها ويهذر بإدانتها ويلغو بسبِّها، حتى ولا توقيفاً إدارياً لأيام ريثما يتم إبعاده! لم يعرف الرجل منفىً أو غربة في مهجر، كما لم يعانِ من ملاحقة أو مطاردة، لا صدرت بحقه مذكرة ضبط من سلطة قضائية، ولا ثمة تقرير أمني يدينه بنشاط ضد أية دولة! وبينما قضى الشيخ راغب حرب ثم السيد عباس الموسوي شهداء في قلب الجنوب على يد العدو الإسرائيلي الغادر، كان الرجل يتغنى بالجهاد ببيروت، ويتاجر بالمقاومة على طريقة “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون”، وبينما المجاهدون يعيشون ويقضون هم وأبناؤهم في الجبهات، لا تجد واحداً من أبناء فضل الله أو جماعته إلا في أفخر القصور والمصايف والبساتين والاستراحات، يتنقلون بسياراتهم الفارهة ورجال الحماية يحيطون بهم، كأن العالم بأسره يريد أن ينقض عليهم!

لا وقاحة وجرأة على التزييف كاتهام السعودية بالسعي لتصفية فضل الله! وهو رجل الوهابية الوفي الذي نقل وصاغ كلَّ عقائدها ومقولاتها وأدرجها في قالب فكري طبعه ووسمه بخاتم التشيُّع، وأبى أن يوفر من إباحيته وتهتكه شيئاً إلا حرمة التدخين، حتى وافق القوم وجاراهم في كل ما شذوا به عن سائر الفرق الإسلامية! وما زال “الشيعي” الوحيد الذي تُستثنى جميع كتبه من المنع، بل من مجرد الرقابة والحاجة إلى الترخيص للعرض والترويج في المملكة العربية السعودية! وما زالت دار الملاك مشغولة طوال العام بطباعة الكتب المدرسية السعودية، التي تخصها السفارة بحصة وافرة منها، كما تفعل مع مؤسساته الخيرية وتخصص لها نسبة من أضاحي الحج، لتقسَّم على الفقراء، وإذا بك تجد أكياس الذبائح وأكفانها، في حاويات مطعم الساحة لفترة طويلة بعد كل موسم! وبعد، فالرجل ما حج أو اعتمر إلا ضيفاً على الملك، يستقبل في صالات الشرف، وينزل الأجنحة الملكية في مضافات مكة وجدة والمدينة، بل ما ركب الطائرة هو والوفد المرافق له إلا بتذاكر مصروفة من السفارة السعودية.. إن التيار الشيعي الوحيد الذي يحظى برعاية استثنائية من الأنظمة الخليجية المرتكزة على تعليمات موحدة ترعاها المملكة العربية السعودية، هو تيار فضل الله، ومع أن نسبته في الكويت لا تتجاوز أعشاراً من 1%، إلا أن أكثر من 90% من المساجد التي رخِّصت للشيعة في العقد الأخير، منحت لهذا التيار! ثم يأتيك بن جدو كافراً بالنعمة ومتنكراً للفضل والإحسان، ليزعم أن السعودية أرادت اغتيال فضل الله، بل ويظهر ابنه في الفيلم ليؤكد هذا السياق، جاحداً فضل سادته، وعاضاً اليد التي طالما أحسنت إليه وإلى والده!

سيأتي يوم ينبري فيه إعلامي حُر، ليسجل فيلماً وثائقياً مهنيّاً، لا يسفِّه نفسه ولا يستخف بمشاهده، يطرح الحقائق ويعرض فضل الله كما هو: رأسمالي ناجح، وتاجر حاذق، وظَّف الدين للثروة، وعاش للرئاسة والشهرة، وترك إرثاً متنامياً من الأسهم والعقارات، والمطاعم السياحية ومحطات الوقود. وإن سقط الباحث في وهج الإعلام وغلب المستطلع ضجيجه، فرأى جانباً فكرياً في الرجل، فسيعكس أرتالاً من الكتب، سوَّد بها نقاء الدين، وشوَّه وزيّف ما شاء له وأملى الشيطان الرجيم. أما الثورية والجهاد فدونها في الرجل خرط القتاد. وفي هذا الفيلم ستظهر وثائق الممتلكات والعقارات، وصور الأرصدة في البنوك، والشيكات والصكوك، وينكشف أن ما قاله مصطفى ناصر في شهادته كان منقوصاً ومبتوراً، وأن سركيس نعوم، ابن “النهار” بما تعنيه من موقع في المصفوفة والمنظومة العالمية، كان يؤدي رسالة ودوراً تمليه الماسونية، ويعكس الصورة التي تريدها لهذه الشخصية.

لم ينج من فيلم غسان بن جدو إلا الثمانون الذين استشهدوا في المجزرة ظلماً وعدواناً، هؤلاء أدركوا الفتح عند ربهم، وما هلك إلا فضل الله، الذي عاش بعد التفجير خمسة وعشرين عاماً قضاها في الفساد والإفساد، ونشر الضلالات ومحاربة فقه آل محمد وعقائدهم، ثم خلف من بعده صبيان فسقة كعودة وموتورون متصنعون كشفيق، ما زالوا يمدون قبره ويرفدون حفرته ويحصبون نيرانها بما يذكي وقدتها ويسعِّر جحيمها، ولو كشف لهم الغطاء، لأحسوا ـ وهم في بيوتهم ـ بوهجها وصَلاها، ولسمعوا حدَمتها وزفيرها، ولرأوا اليحموم يتصاعد من زاوية مسجد الحسنين، والدخان الأسود يملأ المكان، وسحب الغضب الإلهي تحطُّ وتحوم، وتظلل وتستحوذ على كل ذلك الفضاء المشؤوم.

7 آراء حول “أفلام بن جدو

التعليقات