بين معتَّقي الخدمة، ومحدَثي النعمة…

كما يمكن تشخيص المنافقين، فتعرفهم بسيماهم، ومن لحن القول، تكشف مكنونات نفوسهم من صفحات وجوههم، وتلتقطها من فلتات ألسنتهم، تلحظ أغراض أسئلتهم وما وراء استفساراتهم، فلا تجدها مرة استفهاماً حقيقياً، وطلباً للعلم وما ينفي الجهل، محض تحسُّس وتجسس، وسعي لجمع المعلومات واستطلاع الآراء، تشخِّصهم من تحرياتهم وطبيعة متابعاتهم، وشغفهم بتقصِّي الأخبار والإحاطة بالأوضاع. تُميزهم بحركاتهم ولفتاتهم، ومقاعدهم من المحافل، مواقع الرصد أو الظهور التي يتخذونها (حسب الغرض والهدف). تتفطَّن إليهم من ابتعادهم وتجنبهم أُموراً، وتجاهلهم قضايا خطيرة مُلحَّة، يتعمَّدون إهمالها ويكافحون تصدُّرها، مقابل توغلهم في أُخرى عارضة تافهة، يحرصون على تداولها، لترويج تحليل بعينه وقراءة دون سواها، مما يرون أنها ترسِّخ واقعاً يريدون تحكيمه، ويروِّج مقولات يحملونها، وكل ما يوحي بارتفاع راية الضلال، وثبات دولة الباطل واستحالة زوالها، ويبعث في الناس اليأس من تقويضها.

ويمكن تشخيص “محدثي النعمة” أو الأثرياء الجدد، من تعاطيهم المتخلِّف، وتردِّي سلوكهم الاجتماعي، الملحوظ في الملبس والمأكل والمسكن، الذي يطبع بيوتهم والمتاع الذي يتخذون، إلى التكلُّف والمبالغة في كلِّ ما يفعلون، بذخ في غير محله، وبطر بلا داع ولا عائد، يدعو أحدهم شخصاً أو اثنين، فيقيم وليمة ويبسط مائدة لعشرين أو ثلاثين! تعرفه من ميول إلى الفاقع الصارخ، وولع بالغريب الشاذ وبالنشاز، من ثياب وأزياء أو أثاث، وقد تراه مولعاً بتصاميم وقطع تعالج عُقد نقصٍ من قديمٍ لم يحظَ به أيام فقره، يستدرك الحسرة على فوته، فإن سلم أحدهم منها، سقط في جديد لا يناسب عمره ولا طبيعة عمله، ولا يراعي الساعة والمناسبة التي يظهر فيها… وفي المجموع السمة الملحوظة في هؤلاء هي الزهو والتكبُّر والمبالغة في التفاخر بالثراء والمباهاة بالغنى، لا يحسنون إليه سبيلاً إلا بالتصنُّع والتكلُّف والإفراط! مع افتقار لقيم وأخلاق النبلاء، ولا أُريد الطبقة والأرستقراطية، بل الذين أُشبعت نفوسهم لا بطونهم، وامتلأت عيونهم لا جيوبهم.

كما عرفت هؤلاء وشخَّصت أولئك، يمكنك أن تعرف وتشخِّص المتطفلين على الساحة الدينية والساعين لقيادة الحركة الإيمانية، من “مُحدثي نعمة الولاء” و”الملتزمين الجدد”، أو الطارئين على العلم والحوزة، وفي الضفة الأُخرى من الساحة الإيمانية: المتطفلين على الجهاد والثورة! فـ ”محدثو النعمة” ظاهرة سارية في كل حقل وميدان، بتعدُّد النعَم وتكثُّرها، فالنعمة ليست مالاً فحسب، هي صحة وأمان وعلم ودين وغير ذلك.

إنَّ الساحة في الحوزة ونطاق “علماء الدين” تعاني من “مُحدَثي النعمة” هؤلاء، سواء من أدعياء الصفة ومنتحلي العنوان، أو بالغيه حقاً ومدركيه صدقاً، وهو مشاع مبذول لمن بذل جهده وصرف جِدَّه، وإن لم ينحدر من بيوتات علمية، متقدِّمة في خدمة العلم والانخراط في الحوزة، وسابقة في تبوُّء الرئاسة والزعامة الدينية. ولا عيب في مُحدَث نعمة العلم، فجميع البيوتات العلمية الحالية، كانت يوماً، عند جدِّها الأعلى المؤسس للأُسرة، مبتدئة وطارئة و”محدَثة نعمة”، تعيش غربة الأجواء والفضاء، وتُرمى بالتسلُّق والتطفُّل! فلا منقصة ولا غضاضة في الملتحقين الجدد، إذ لا وصاية في الحوزة ولا حصرية ولا احتكار.

إنما الوقفة عند نوعيات خاصة، تجد طباع “مُحدَثي النعمة” السلبية غالبة فيهم وحاكمة عليهم، من قبيل التهوُّر والإفراط، والمبالغة والإسراف، الجنوح إلى الغريب الشاذ، وتحرِّي الإثارة وملاحقة الأضواء، وما يعالج خمول الذكر بين الفضلاء. تجده يطفر متمرداً على الواقع، وينهض جامحاً على السائد، حين يرى ـ بمحدود اجتهاده ـ فساده، ويقدِّر ـ بمتواضع خبرته ـ ضرورة تغييره! ولعلَّه في “الأنا الخفية”، يتطلَّع إلى عنوان “المصلح” و”المجدِّد”، ما يداري كونه طارئاً على الساحة، ويدفع النظرة إليه كدخيل دعيٍّ، وعابر طارف، غير أصيل أثيل، ولا عريق تليد، لا من اللحمة القريبة ولا من العصبة اللصيقة… والفارق المشهود هنا، أنَّ سليل البيت المعتَّق، الحسيب في خدمة الدين ونصرة المذهب، إذا زلَّ وشطح، أو عثر وجنح، فإنَّ موقفاً زاجراً من كبار أُسرته، وكلمة واحدة من عِلية قومه، تكفي لردعه ولجمه، وترويض شَموسه وتطويع حِرانه، وحمله على الكفِّ والإمساك، بينما “مُحدث النعمة”، لا يصغي لناصح مشفق، ولا يسمع لواعظ مرشد، يمضي على ما يهوى، ويصرُّ على ما يركب، يتمادى ويبالغ، يحسب أنه جمع العلم من أطرافه، لا في أُصوله وكلِّياته، بل حتى في مصاديقه وتطبيقاته، وقرأ ما خفي على غيره. لا مشير يردعه ولا حصيف يقنعه، فيمضي إما إلى عطبه وهلاكه، أو إفساد الدين وتمزيق صفِّه وجبهته. قد يصعب على كثيرين تفهُّم ما يكون من بعض العلماء، ولا سيما مَن عُرف بالإخلاص وتميَّز بالمعرفة والولاء، والأمر عند الفحص المعمَّق يعود إلى أنَّه مُحدَث النعمة في الفقاهة، يلاحق المواضيع بلهفة الطارئ وشغف المفتون، فما إن يقع على ما ينقض السائد، وقد حلَّت فيه الملَكة، وبات يشعر بقدرته على الاستنباط وتفوُّقه في الانتزاع، حتى راح يصول ويجول، يسرح في فضاء الأدلة ويمرح بين أشباهها، يراها طوع بنانه وكما يشتهي من لقمة بين أسنانه، وقد تكون رغبته نبيلة حميدة، لكنه في ملاحقتها وسعيه لتطويعها، وإدراجها في المنظومة المتكاملة للدين، يقع فيما يفتقد للحكمة ويجانب الوقار والرزانة. هذا لمن بلغ الفقاهة حقاً، أما منتحلها الذي يسابق مراهقته، والمتطفِّل الذي يغالب استشرافه، يُسقط نفسه ويحمِّلها ما لا تطيق، فهو خارجٌ تخصصاً، إذ لا “نعمة” هنا لتكون متأصلة، أو طارئة “مُحدثة” فيه.

وكذا الحال مع الملتحقين بساحة إقامة العزاء، والناهضين بالمآتم والهيئات، وإحياء الشعائر الحسينية. تعرف مُحدثي النعمة هنا بصفات، وتُشخِّصهم بسلوك وأداء، يميِّز هيئاتهم المحدَثة ويفرز مآتمهم المستحدَثة، يفصلها عن مجموع المعزين وجموع الحسينيين، أداء لا تجده في حسينية قديمة وهيئة أصيلة، مضى على تأسيسها أجيال، أشرف الأبناء على ما تلقوه من الآباء، وحفظ الآباء ما ورثوه عن الأجداد، فاستمر الأحفاد على الأصالة، والتزموا الموروث من الشعائر والطقوس، ومضوا في إدارة الحسينية باتزان، وقيادة الهيئة بحكمة ورصانة… بينما ترى مُحدَث النعمة سبَّاقاً إلى كلِّ جديد، مبادراً لكلِّ مبتَدع، حريصاً على لفت الأنظار وجلب الأضواء، مفرطاً مبالغاً مزايداً ما تمكَّن، متطاولاً ممعناً ما استطاع!.. تقيم سائر الهيئات اللطم لساعة أو اثنتين، فيتمادى هو إلى ثلاث وأربع! يرتقي المنبر في الحسينيات خطيب ورادود، فيتعاقب عنده أربعة قرَّاء ومثلهم من الرواديد، يتناولون الحضور المنهك، والجمع السئم الضجِر، بما يغدو عقاباً لا عبادة وإحياءً! تكون حصة الرثاء والبكاء ربع وقت المجلس أو نصفه، حسب الأيام والمناسبات، بينما يستغرق لدى القوم المجلس كلَّه! من أوله إلى آخره، يقضونه بذكر المصيبة والافتجاع! تسلل “الشور” والخلفيات الصوتية (ما يسمونه التسبيح) إلى العزاء، واندسَّ في المجالس والهيئات، مقترناً بالتمايل والقفز، ما قلب الحسينيات وقرَّبها من المسارح والملاعب، فتلقفوه وروَّجوا له ونهضوا به، ليستقطب ويحشد، وتكبر الهيئة وتنمو الحسينية، ويشتهر الرادود ويذيع صيته.

والشكوى هنا تطول من “محدَثي النعمة”، ولن أعبِّر بالمتطفلين، فهذه رحاب، بل جنة دُعي إليها كلُّ مؤمن، العالم منهم وغير العالم، الملتزم وغير الملتزم، الأصيل الأثيل في الميدان، والأوَّل السابق، كما الطارئ العابر، سيَّان، وما قيام وبقاء ودوام الشعائر، إلا لشعبيتها وعدم نخبويتها، ولبقاء الباب مفتوحاً لدخول المزيد، مشرَعاً أمام كلِّ ملتحق جديد، ومنتسب قريب من الحقل والميدان أو محبٍّ جاء من بعيد… ولكننا لن نغفل عن الأيدي السياسية والأذرع الحزبية التي تريد خرق الساحة الحسينية، عبر هيئات يقف خلفها “محدثو نعمة”، من غرباء مبتدعين، باعثي فوضى وناشري عبث في شعائر الدين، سنتصدى لهم ونكشفهم، ونحذِّر شبابنا من الانخراط في صفوفهم، والتأثر بزخرف مقولاتهم، وباطل تهريجاتهم! وعلى المؤمنين المنخدعين التيقظ، والوقوف في وجه من يريد “التناوش من مكان بعيد”، والتطاول إلى ما يزري بأُصول الشعائر وضوابطها الموروثة، ويطمع أن يتسنَّم قيادة هذا الحقل وإدارة هذا الميدان وأخذه حيث يريد! إنَّ ميدان الشعائر الحسينية وساحة عزاء سيد الشهداء، لا تخضع لتنظيم حزبي يجمع العاملين، ويسيطر على الخدَّام والمعزِّين، تطيب للحزب أُنشودة تمجِّد بالسلطان في طهران، فتجد الطبول تحكي رجعها والجموع الآلية في العراق والبحرين ولبنان، وأفريقيا وباكستان تكرر صداها: “سلام فرمانده”! لن نمكِّنهم من هيئاتنا وحسينياتنا وعزاء مخدومنا، لن نسمح لدولة تحكم باسم ولي الفقيه، ولا لأحزاب تدور في فلكها كثيران الطواحين، أن تسيِّس الشعائر وتمسخها، وتعمد في سبيل هذا الخطير إلى كلِّ وسيلة وحيلة، وتقحم أي باب. ولن تنطلي علينا الأكاذيب التي تتستر خلف واجهات “ضرورة التنسيق” ولافتات ”حسن التنظيم والترتيب”!

بمقدار رحابة الساحة الحسينية وسعة صدرها للقاصي والداني والفرص المتاحة لمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، فهي في مقام القيادة والإدارة، موصدة بقوة أمام المتآمرين الأشقياء، وكذا أمام الغرباء ومحدثي النعمة من السذَّج البسطاء، الذين انطلت عليهم الحيلة وابتلعوا الطعم ووقعوا من حيث لم يشعروا في شباك الجمهورية وأحزابها، ودائرة أعداء الشعائر ومناصبي العزاء (تابع سلسلة “جنود القائد” على اليوتيوب)… هؤلاء، الذين ثبت أنهم لا يحسنون التشخيص والتدبير، وأنهم يُخدعون بمنتهى السهولة، لا يليقون بقيادة الساحة وتولي زمامها، وابتداع أنماط جديدة تنعطف بمسيرة، ما بلغتنا إلا بخوض اللجج وسفك المهج!

ببساطة شديدة، هو “بروتوكول شرف”، أعراف متوارثة، وأنماط أصيلة، وطريقة تجاوزت التجربة والاختبار، إلى النجاح في إبلاغنا المسيرة ووصولها إلينا من الآباء والأجداد، لن يُسمح لأحد هنا بالاجتهاد. لسنا في مهرجان ولا فلكلور شعبي، لا “سلام فرمانده” ولا “خدا حافظ آغا”، هذه عبادة مقدسة، تركبنا سفينة النجاة، وتأخذنا عبر أقصر الطرق إلى عنان السماء، وتفتح لنا على الجنة أوسع الأبواب، وتتيح لنا التعبير عن عشقنا وولائنا لأهل البيت عليهم السلام، لن نغيِّر الطريق ولن نبدِّل النهج، ولا بمسِّ وتيرة واحدة في إيقاع منضبط منذ مئات السنين. ليعرف كلٌّ قدره ومكانه، ويلتزم درجته، ويقبع في رتبته، ولا يتجاوز حدَّه ودوره… قيادة الساحة الإيمانية بمختلف فروعها وتشعب نشاطاتها، من الفقاهة والمرجعية، إلى الشعائر الحسينية، حقول مقدسة وحصون منيعة، لها أربابها ورجالها، وما علينا إلا الالتحاق بركبها، لا تأسيس مواقع محدثة وقوافل جديدة، ولا اتباع طارئين على الميدان والخدمة، من “محدثي النعمة”.

لا أشربُ الماء ما لم يَصفُ موردُهُ، ولا أقولُ لِمُعوَجِّ الوِصال صِلِ ولك أن تتمثل: لكُلِّ أُناسٍ سيِّدٌ يَعرِفونَهُ، وسيِّدُنا حتى الممات ربيعُ.

التعليقات