الغلو، قنبلة دخانية….

من المؤمنين رجال متشرِّعون يُغرقون في التزام التقية ويبالغون في الحرص على حدودها، يتنكَّرون لكل نشاط ديني عام، ويتجنبون أي ممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعيشون “يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم”، يحسبون أنها تأمرهم بترك ما تركوا، حتى لا يخوضوا مع الخائضين… وفي المقابل هناك آخرون “رساليُّون”، انخرطوا في الدعوة والبلاغ، نهضوا بـ”قوا أنفسكم وأهليكم”، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ليكونوا من المفلحين. والملحوظ المشهود في عصرنا الحاضر وزماننا الماثل، أنَّ الأكثرية أو الغالبية باتت في صفِّ الحركيين والدعاة العاملين، دون الساكتين السلبيين، ليُسر الاطِّلاع والتواصل، وسهولة اتخاذ الموقف، وهامش الحرية الذي انتقل إليه المجتمع الإنساني قاطبة، ولا سيما حين لا يتجاوز الأمر تكثير السواد أو التفاعل مع المشاهدات، ونصرة بموافقة وعلامة إعجاب! ولعلهم ينكفئون إذا لوحِقوا، ويتوقفون إذا رُصدوا، فوجدوا أنَّ المشاركة قد تضرُّ بدنياهم!

ومع هذا وذاك، هناك أمر مُلفت يورث الحيرة ويوجب وقفة تطول، وهو أنَّ الساحة الإيمانية الناشطة، تزدحم بأفراد وجماعات تحمل رؤى مختلفة واهتمامات متنوعة، تمارس النشر وتلاحق الدعوة والدعاية، ولكنك إذا نقَّبت وتحريت، تخلَّصت من إطار العقل الجمعي وخرجت من التلقين الخفي، فدقَّقت النظر وأحسنت القراءة، وجدتها كلها تتجاهل أمراً واحداً بعينه، وتعرض عن قضية خاصة دون سواها! إنهم يتحدثون عن كلِّ شيء في الدين، معالمه وشعائره، عقائده وأحكامه، كلياته وتطبيقاته، انتصاراته وإخفاقاته، عيوبه ومميزاته، إيجابياته وسلبياته، ويتناولون صغير الحوادث وكبيرها، وعظيم الشخصيات وحقيرها… ثم ينتابهم صمت القبور، وينزل بهم سكون دكَّات غسل الموتى، تحمل الجثمان تلو الآخر، وتستقطب المفجوعين الفاقدين، يمدون عليها ويحملون عنها الأحباب، يسكبون الماء ويغسلون، وهي ساكنة سكون الحجر وجموده، لا الجبل الذي قد يمرُّ مرَّ السحاب، وقُل إن شئت سكون الريح في بحر كئيب، كتبت أقداره على سفينة بالتيه!.. لا أحد يتحدث عن دور النظام الإيراني ومكانه من الأزمات التي تعصف بديننا وعقائدنا وبلادنا!

إن الساحة الإعلامية والثقافية اليوم تتناول جميع القضايا الشيعية، إلا القضية الأكبر والأخطر، التي تشكِّل أُم الفساد، ورأس الفتنة وجذرها! وهذا التغييب يعني أنَّ هؤلاء يمارسون دوراً وينهضون بمهمة، أُوكلت إليهم، هي الإشغال والإلهاء!

إنَّ مَن يحمل همَّ الحرص على المذهب حقاً، ويناضل لدرء الأخطار عنه صدقاً، يخرج لطلب الإصلاح في المجتمع الشيعي، ويعمل على تقويم الزيغ في الساحة الإيمانية، ثم يعيش وعياً بالأخطار وبصيرة بالمراتب والأولويات… لا يمكنه أن يغفل ويتجاهل دور النظام والمخابرات الإيرانية، ويصمت عنه حتى كأن لا وجود له!

الإخوة الذين يقرأون ما بين السطور، بل يستطلعون الغيب، يستشعرون خطر عودة النهج الأخباري للحوزة، فيحملون فؤوس الهدم وسيوف الطرح والإسقاط، لا يسلم منهم أصحُّ حديث، ولا تنجو أعلى أسانيد، ولم يخلص من كيدهم حتى الدعاء والتاريخ، فأزروا بالتراث الشيعي وخلَّفوه أسمالاً بالية ومادة للتندر والسخرية.. ثم يدركون بوعيهم وتلتقط بصيرتهم خطر تنامي ظاهرة الغلو، فيميلون على الفضائل والكرامات والمعاجز ميلة ناصب يفتت الحقد كبده، ويأكل الحسد قلبه، ويملأ الحنق والغلُّ صدره، فلا يبقون للمعصوم بقية تميزه عن “صحابة عدول”!…

كيف خمدت مجسَّاتهم عن استشعار خطر حقيقي يتهدد الحوزة من تدخل الدولة والنفوذ الإيراني؟ كيف غاب عنهم تغيير المناهج وما أفضى إلى السطحية وغياب التعمق، وقتل الإبداع وحقيقة الاجتهاد؟ كيف خفي عليهم دور المخابرات في التوجيه وسوق المسارات لصالح مَن يرسمون له من مرجعيات؟ هل تمدُّد اليعقوبي وانتشاره أمر طبيعي عارض؟ هل بناء المراكز وتشييد المباني وتوغل الدعاة وعناصر الاطلاعات في النجف الأشرف أمر عادي بسيط؟ هل اختراق إدارات العتبات المقدسة وتحويل صحن الحرم الحسيني وسوق أعز الطاقات من شباب الجامعات، سلعة وشرعة لكل وارد، أمر يسير عابر؟ هل الاستحواذ على إدارة التبليغ في أعظم شعيرة حسينية (الأربعينية)، قضية تافهة من الترف الفكري؟! كيف عموا فصموا عن يد المخابرات الإيرانية الممتدة في الحوزة ومناهجها وبعض المرجعيات وإدارتها؟ كيف غلبتهم الغمة عن سلاح يتهدَّد أي مشروع مستقل عن إيران، وقد أفتى المرجع الأعلى بتسليمه للدولة؟! كيف يلتقطون بيان مكتب المرجعية في إرشاد الخطباء، فيكررونه في كل عام وكأنه وحي نزلت به السماء، ثم يتناسون حكم المرجعية في تسليم السلاح وما يفضي إلى استقرار البلاد وخدمة الدين والعباد؟!

لا ريب في شرف القضايا العلمية التي يثيرونها، وجدارتها بالبحث والتحقيق، فنعرف الحقيقة في حديث الخيط، وفي أُمِّ صاحب الزمان، وفي موقع المسجد الأقصى من العقيدة والإيمان… ولكن مع أمرين وبشرطين: التزام النطاق العلمي والحوزوي، ثم وعي وبصيرة حقيقية، ونباهة وفطنة متفوقة، تدرك أنها، متى أُلقيت بين العامة، لا تعدو قنابل دخانية تريد إلهاء الساحة وإشغالها عن محل البلاء ومركز الفتنة، أي ما يفعله نظام الجمهورية، سواء على صعيد السياسة والمغامرة بمصير الشيعة في العالم، أو العبث بالقضايا العلمية والأُمور العقائدية التي تأخذ الأمة في اللامذهبية، أو نحو مزيج من الزيدية والوهابية المبطنة.

يا للمسلمين، لا أحد ينهى عن هذا المنكر الأخطر! ولا أحد يعين الوعي بكلمة وينصر المجاهدين بعون ومدد، فإذا تصدَّى جمع للأمر، أشغلوهم بفتن متتالية وبلاءات متلاحقة، وآخرها فتنة الغلو…

وظاهرة القنابل الدخانية ليست محدثة أو جديدة، سبق في العصر العباسي إشغال الناس بفتنة خلق القرآن، لحقتها فتنة الفلسفة والتصوف، واستمرت سحب الدخان في عصرنا على غير صعيد، فكانت ظاهرة “أبو طبر” في الأمن، وظاهرة مقتدى في السياسة، وقضية الحجاب والصلاة في الشعائر. وبين هؤلاء ينشط القراد العالق بأعقاب الدواب، ينتفض لتصحيح الحديث ونفي الغلو والدفاع عن المرجعية… والسؤال لأدعياء الرجولة والشجاعة والبطولة: لقد تعرض الموقع الإلكتروني للمرجع الأعلى للقرصنة على يد المخابرات الإيرانية، فخُدع معارض واستُدرج إلى العراق للقاء السيد المرجع، ثم خُطف من بغداد وتم إعدامه في طهران، هل هذا العمل المشين يشكل هتكاً للمرجعية، أم تحفظ مؤمنين غيارى على تأبين ضال مضل تلوثت يده بدماء الشيعة في كابل، ونقد رأي شاذ أزرى بالولاية، أصل الأمر وسنامه حين قدَّم عليها الفرع، فرفض الأحرار هذا الضلال؟!

لا أحد في الإمامية الإثني عشرية يذهب إلى الغلو، وإن كان، فهُم آحاد شواذ، لا يشكِّلون ظاهرة تقتضي هذه الإثارة، تماماً كما هو الحال في القضايا الأخرى المفتعلة كدعوى الزحف على الشوك والزجاج في الشعائر، وترك المعزين الصلاة، وما إلى ذلك من دخان يحجب البصيرة عن رؤية الخطر الحقيقي.

التعليقات