الحمى المستباح في لبنان

عندما ترِد أحاديث شريفة ونصوص معصومة توكل أمر الدين إلى الأئمة الأطهار وتمنحهم مقام التشريع والتقنين وبيان الأحكام بمعنى تحديدها، ثم إبلاغها، وتعطيهم حق الرئاسة والقيادة والإدارة، وحق تقدير المصلحة ورسم أُطر الحكمة (من قبيل ما جاء في الجامعة الكبيرة، وفي قوله عليه السلام: إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر من بيوتكم، والصادر عما فصل من أحكام العباد)… تجد بعضهم يتردد ويشكك، ويرى ذلك مبالغة وإفراطاً في التمجيد والتقديس، وغلواً في الحب والولاء!

فإذا نحّوْا أهل البيت جانباً وزوَوْهم عن حقهم وأقصوهم عن دَورهم، تراهم يمنحون قادتهم وكبراءهم ما كانوا يستكثرونه على حجج الله وأوليائه في أرضه، ويأبونه للأئمة المعصومين من آل محمد!… فيعودون ليمنحوه أنفسهم، فيفعلونه ويمارسونه كحق ثابت لهم! وكأنهم هم أولياء الله، وولاة الأمر والنهي، وأصحاب الفصل، وورثة الدين، والقوّام بالحق.

يغيرون ما يشاؤون من الأحكام والعقائد، يزيدون في الشريعة وينقصون، يبتدعون ويخترعون، أو يحذفون ويغيرون، كل ذلك لمصالح ارتأوها، وحِكَم قدّروها، وظروف قرأوها، وتحليلات توصلوا إليها… ولك أن تحكم وتقيّم كم أصابوا في هذا أو أخطأوا.

قدّر أحدهم أمراً، واستحسن رأياً، ورجّح حالة ووضعاً، فقرر تغيير حكم شرعي كما يهوى وتبديله كما يشاء، وإنزال الأمة على رأيه وتقديره! فأصدر قراره، ليأخذ أمره مداه وسعته وحظه من التطبيق والنفاذ بما يتناسب مع قدراته وإمكانياته… اشمأز الرجل من الدماء ورآها شيناً، فمنع التطبير والإدماء، وحتى اللطم الشديد، بل الصرخة والنواح (وكلها مشروعة راجحة في فقة أهل البيت ومذهب الشيعة وشريعتهم) وجنّـد الجند لمحاربة الشعائر الحسينية، فخلق فتنة عمياء وزرع البلاء، وأدخل الشيعة في متاهة من النزاع والشقاق، ما زالوا فيها من عقدين ونيف ولم يخرجوا من أذيالها ولا تخلصوا من عقدها وحبائلها!

وآخر رأى ألَقه ومجده وموقعه من الصيت والشهرة أو جمع ثروته وتكديس أمواله، يكمن في كسب ودّ المخالفين وتسجيل نقاط الإدانة على مذهبه، فجحد ظلامة الزهراء، وشكك في أصل البلاء وأساس النصب والعداء، ثم أراد توسيع دائرة أتباعه فلم يجد أهون من الميوعة وأيسر من التسيب والتهتك، فأجاز بيع الخمور وأباح الاستمناء، وحلل أكل الجري والمحار والصدف البحري، وحكم بطهارة السيخ والنواصب، حتى هلك وما زالت ضلالاته حية، وما زال الناس يفسدون صيامهم وعيدهم وطهارتهم ويملأون بطونهم من حرام حلّله لهم!

وثالث لم يجد “زمزم” يبول فيها ليلفت الأنظار ويحظى بالشهرة التي يتمنى، فحرم زيارة الأربعين على النساء وراح يستخف بالعزاء!

ورابع ضليع بالتجارة والمال، يتربع على إمبراطورية استيراد وتصنيع السكر، أفتى بنقل ذباحة الهدي من منى إلى بلده عملاً بالاقتصاد ومنعاً للإسراف.

وخامس أفلست مسرحياته الهزلية وغلبت السوداوية على تهريجاته السمجة، ففجر فرقعة على حجم ما يتقرقر في بطنه من أرياح وغازات… تريد نقل المرجعية الدينية من الفقهاء إلى الفلاسفة! فلما عجز وبان سخفه وهزاله، دخل في الهذيان وصار يطعن الدين الحق وينسبه إلى الإسرائيليات!

وسادس لم يجد ما يسوّغ زيفه وضحالته، وخلو وفاضه من أي علم وإبداع، فقال بالسلمية في قيام القائم عليه السلام، ونفى القوة والسيف في الظهور الشريف!

وسابع وثامن… وعاشر…

حتى ظهر لنا بالأمس في لبنان من رأى “المصلحة” وقرر خدمة الدولة وإرضاء مفتي السنة بقذف الشيعة كلهم بأنهم أبناء حرام!
هكذا يفتري، من يتبوّأ مقام رئاسة الطائفة في لبنان، على الله والدين والحقيقة فينزل أعداء آل محمد منزلة علي عليه السلام، والمعيار الذي جعله رسول الله له من أن بغضه علامة النفاق وعدم النجابة…

بهذه البساطة واليسر والطيش والرعونة تهتك أحكام الدين والشريعة، وتقلب العقائد والأفكار، ويُعبث في أمر الله…

إنهم يمسخون ديننا، ويتّجرون بمذهبنا، ويستأكلون بآل محمد، ويستبيحون التشيع… وكأنهم يبذلون من حرِّ مالهم، ويصرفون من مؤونة بيتهم ودارهم، ويقتطعون ويهبون ويمنحون ويتصدقون من تركة آبائهم وإرث أجدادهم… لا يبالون ولا يكترثون، لا يعتنون بأحد ولا يخشون ردة فعل ومحاسبة، ناهيك بانتقام!

قهرتنا المداراة فخنعنا، وهزمتنا مصالحنا فداهنّا، ثم دارينا ذلك بزعم الحكمة والروية، وتسترنا بدعوى الفطنة والكياسة، فغُلبنا على أثمن ما نملك، واستبيح أعز حمى وأمنع ذمار.. والجناة يوغلون في الوقاحة وسوء الأدب، لم لا وقد أمنوا العقوبة وضمنوا السلامة!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

التعليقات