جذور ضلال الحيدري

يبدو أن المنحرفين الضلّال، أعداء الحق وأنصار الباطل، صوت النصب وعضد الجور، اتخذوا “كشف العورة” نهجاً لهم في الحركة وطريقة في العمل!

وكنت أحسب الأمر حادثة وقعت ومضت، أفرزها الدهاء وبعثتها الدناءة، يأبى أن يثنّيها التاريخ، ولن يعود ليكررها، فيعمد إليها دونٌ لئيم، وجاهل وَضيع، ليعِفّ عنه سيدٌ كريم، ويُطلقه تعالياً وأنَفة، وهو يغضي حياءً، ويُعرض ترفّعاً وإباءً، وتنزّهاً عن لوث قد يطال من يزيح وَضَراً ويزيل عَذِرة… لكن ها هي ترتسم في القوم سلوكاً وطريقة، وتخطّ حالة وتتبلور نهجاً، يبدو أنه تمكّن منهم فغدا طبعاً وسجية!.. لا يلبث أحدهم أن يواجَه ويُحاجج، حتى يُحاصَر (من فرط وَهي دليله وعجز فكرته وبطلان عقيدته)، فيقع في مأزق ويسقط في شَرَك… عندها تراه يبادر إلى “كشف عورته”! متخذاً ذلك مطية لنجاته ووَسيلة لخلاصه.

فعلوها في الحرب والقتال، ما منع الكرام عن الإقدام، وأمسك سيوف الأشراف عن أخذ الرؤوس وضرب الأعناق… وها هم في جبهة الصراع الفكري يلجأون إلى عين الابتذال، ويمارسون نفس الانحدار، يخرصون ويهرفون فيوغلون ويبالغون، فلا يرد عليهم أحد، ويخلى بينهم وبين أتباعهم، كما أخلي من قبل، أو خلوا بأنفسهم مع شياطينهم، طالما تسامروا وتنادموا حتى سقطت الحُجُب بينهم، واتخذ كلٌّ فلاناً خليلاً وخديناً وقريناً…

من هذا الجُحر المظلم الرطب، والوِجار النتن العفن، والقعر الموبوء الآسن، والوكر المريب الفاسد، يطالعنا بين فترة وأخرى كمال الحيدري، بتسجيل مرئي (فيديو)، يكشف فيه عورته، وهو يطرح مزيد ضلالاته وجديد انحرافاته، ويسوق حجة أخرى على حمقى مستغفلين يقسمون إنها عنزة وإن حلقت وطارت!

يضع النقاط على الحروف من قديم ما كتمه أسلافه وأخفوه، ويصرّح بما كنّى وأشار إليه مَن سبقه، ويكرر بسماجة نفس الهراء، لكن بلا تنميق يخفي القبح، ودون مناورة تواري السوأة وتدفع العار، ولا أدنى حياء.. آخرها تسجيل يدعي فيه أن “الفقه القرآني” (!) لا يحرّم على النساء تعدد الأزواج! ويدين “فقه الحديث” الذي يتجاوز حصر موارد حرمة المصاهرة في الآية ٢٤ من سورة النساء، (بدليل “وأحلَّ لكم ما وراء ذلكم”.. فيا لله وللاستدلال!) ومقبحاً: كيف له أن يتوسع ليدخل فيها المحرمات بالرضاعة والعقد على ذات البعل وغير ذلك؟!

الحقيقة إن القضية سابقة قديمة وليست وليدة اليوم، والحيدري فيها ليس مؤسساً ولا منظّراً، بل مجرد رقم صغير، مقلد رخيص، وقَفّة في قُفّة!… نعم، يمكن أن ينسب إليه التميز والتفوق على صعيد واحد: الوقاحة والصلافة، فقد بلغ الرجل كشف العورة.

إن في واقعنا الإسلامي الشيعي اليوم ـ من حيث ـ منهجان أو مدرستان، واحدة تقليدية علمية متخصصة أصيلة، وأخرى عصرية جهولة التقاطية منحرفة. والخلاف أو النزاع بينهما يرجع إلى مئة عام ونيف، وجوهره استقاء المعارف الدينية، من عقيدة وشريعة وأخلاق وما إلى ذلك… كيف يكون في آليته ومنهجه؟ وما هي أسسه ومنابعه؟ سواء في البناء والتشييد أو في النقض والنفي.

وقد اشتد النزاع واستعر بعد انتصار الثورة في إيران، لأن المدرسة الثانية اعتبرت الثورة والجمهورية الإسلامية نتاجاً لها وعطاءً من جهدها، وهي مقولة لا تخلو من وَجه، ولكن في نطاق النخَب والكوادر الحركية العليا (الحزبية، كمجاهدي خلق، وسازمان مجاهدان انقلاب إسلامي وغيرها، وهي في نسبة الحضور والتأثير لا تتجاوز ٥٪ إذا أضيف لها اليسار ولا سيما حزب توده)، لا القاعدة والجماهير التي كانت تتبع المدرسة الأولى، ولا في رمز الثورة وقيادتها، التي كانت من صميم الحوزة وتتولى المرجعية وتنهض بها وفق المنهج التقليدي الأصيل. 

الحيدري، بما يحمل الحمار من أسفار، حلقة في سلسلة، وعنصر في تيار، بل عضو في حزب، مجرد موظف من الدرجة الثانية أو الثالثة… أصل مشروعه وغايته: وضع معارف ومفاهيم مستحدثة، مبتدعة من استحسانات وذوقيات شخصية، بعيدة عن أي قانون وضابطة تحكمها، أو يمكن أن تحاكمها!.. نهج لا علاقة له بالحوزة الشيعية وعلومها، من حديث وأصول وفقه وقواعد وتفسير ورجال ودراية، وحتى كلام وفلسفة، بل لا علاقة له بأصل العلم. 

إن الأمر بالنسبة للغالبية العظمى من المتدينين الشيعة واضح بيّن، وهم لا يعانون فيه من أي شك أو ترديد، فكلُّ مؤمن يعرف حجمه ويلتزم حده بتواضع وواقعية، دون طغيان وتكبّر، تراه يتبع المرجعية ويستقي منها، منطلقاً من الإذعان بالجهل والقصور، فالخضوع للعلم والتخصص، مدفوعاً بالسعي لإبراء الذمة، والحرص على التماس حجة بينه وبين ربه جل وعلا، وكلٌّ يُعِدّ لرقدته، ويمهّد لآخرته، فهي الحيوان.

الشيعة في فروع الدين وكل ما يحتاج إلى تخصّص، مقلدون، يتبعون عالماً خبيراً ضليعاً، مرجعاً حقيقياً، لا مزيفاً انقلب بين عشية وضحاها من حجة الإسلام إلى آية الله، وما زال أتباعه يقلبون الدنيا ضجيجاً وصخباً بكمالاته، ويستميتون، فيعجزون عن ذكر شيخ حقيقي له تلقى منه، وعدِّ تلميذ وَاحد له أخذ عنه!..

لقد حسم السيد الإمام الخميني (وهو قائد الثورة ومؤسس الدولة) الأمر في هذا النزاع ورسم موقفه في تبني المدرسة التقليدية وآلية الاستنباط وفق نهج الحوزة العلمية، وكما عبر قدس سره: فقه الجواهري والشيخ الأنصاري. وكذلك الحال بخصوص المنابع والمصادر، فقد اعتبر جهود السلف من علمائنا، ونتاجاتهم مقدسة، ولا سيما الكتب الأربعة، وطبّقها مصداقاً لمداد العلماء الأفضل من دماء الشهداء، وعظّم جهود وشخصيات أمثال الكليني والصدوق والطوسي والمفيد، الذين يستخف بهم الحيدري وينسبهم وأعمالهم التي خلدت تراث الأئمة إلى “إسلام الحديث” (مستخفاً ومستهزئاً، ومُديناً ومقبِّحاً) مقابل “إسلام القرآن”، في فرضية وَهمية لم يشطح بها فكر شيعي من قبل، على مدى تاريخ النزاع والصراع العلمي المستمر في حوزاتنا المتجددة أبداً، حتى في معركة الأسترابادي مع الوحيد البهبهاني (جُل التوقف كان في آلية فهم القرآن، وهل يمكن الأخذ بظواهره والافتاء بمقتضاها بمعزل عن الثقل الثاني والقرآن الناطق، أم لا؟)..

إن جميع أرباب مدرسة الحداثة والإصلاح والتنوير، سمِّها ما شئت، من جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وقاسم أمين، إلى مهدي الخالصي وأحمد كسروي، إلى علي شريعتي وعلي الوردي، إلى هاشم معروف الحسني وصالحي نجف آبادي، إلى أبوالفضل البرقعي وموسى الموسوي، إلى محمد حسين فضل الله ومرتضى العسكري، إلى إبراهيم الجناتي ومحمد علي التسخيري، فاليعقوبي والمدرسي، وأحمد الكاتب وأحمد القبنجي، وأسد قصير وكمال الحيدري، وحسين المؤيد وعلي الأمين… ومَن فاتني ذكره أو أغفلته لتقيّـة أو مداراة!

كل هؤلاء على اختلاف تنظيماتهم وانتماءاتهم الحزبية (المتنازعة أحياناً)، ودرجة محاربتهم المذهب (باسم إصلاحه وتنزيهه وتنقيح تراثه)، تراهم جميعاً يلتقون على قاسم مشترك، ويتوافقون على شيء واحد هو: هدم أسس انتزاع المعارف الدينية الشيعية، أعم من الأحكام أو العقائد، كما تجد فيهم حقداً غريباً، وغلاً غائراً، وضغناً يجيش في صدورهم على أحاديث آل محمد! هؤلاء كلهم منحرفون ضالون، الفرق هو في درجة إعلانهم وجرأتهم، وقل إن شئت وقاحتهم… إن ياسر عودة هو الناطق بما عجز وخاف فضل الله من التصريح به، والحيدري هو الناطق بما يريد أن يقوله ويفشيه سيده، خاف ردة الفعل، فأوكل المهمة إليه وإلى أضرابه من الفراغل والجراء..

الضلال كما الكفر.. ملّة واحدة، والضُلّال بعضهم أولياء بعض.

في السبعينات اعترض تيار داخل حزب الدعوة على عقيدة الحزب وأدان أطروحته وفكره على صعيدين: تمييع الهوية الشيعية والتفريط في العقائد الولائية، ثم رفضه للحوزة وعدائه العلماء وعصيانه وتمرده على المرجعية، فأسس حركة يفترض أنها تستدرك وتعالج هاتين الثغرتين… عليك أن لا تتفاجأ اليوم إذا رأيت أن ما تتبناه هذه الحركة (المنشقة عن الأم بشعار الإصلاح) في الإمامة، هو جوهر مقولة السنة (من غير النواصب).. وقد طرحه العسكري في التسعينات من خلال محاضرة ألقاها سامي البدري في لندن أثارت حوله ضجة، فدافع البدري عن نفسه بأنها فكرة سيّده مرتضى العسكري، وأنها توافق نهج الدكتور شريعتي وخطّه الحاكم (لائذاً وآوياً إلى جبل يعصمه)! ومؤدى رأيهم وفكرتهم: أن الغدير ترشيح للإمامة لا نصٌّ ولا تعيين، فرسول الله إنما “نصح” الأمة و”أرشدها” إلى ما فيه خيرها وصلاحها، وأن ذلك في اختيار علي عليه السلام، أما فعلِية ولايته فهي قرار الأمة وشأنها… فلا أمر جاء من السماء بإلزام، ولا وَحي نزل إلى الأرض بوجوب، وتحصيل هذا الحاصل “الإرشادي” هو ما اقتضى جعل أقدام الحجاج تلتهب من رمضاء “الغدير” في حجة الوداع! وجعل القرآن يقرنه بأصل الرسالة: “وإن لم تفعل فما بلغت رسالته”! إنها خباثة تفوق قبح الجحد ولؤم النصب (فالأمر فيه بيّن لا يُلبس ويُريب)… وعندي إنها رؤية تسقط الإمامة عن أخطر مواقعها وأدوارها، أي ولاية الله في الكون، فهذا الدور والمقام، ذكرته الروايات والأحاديث الشريفة، والقوم “قرآنيون”، لا شأن لهم بالكافي ولا الكتب الأربعة!؟ وتظهر الثمرة (التي يريدون) في هذا التعاطي مع الإمامة على صعيدي الطائفة والأمة، ما يورث نظرة وقراءة تختلف تماماً عن مؤدى النصوص التي حكم بها الفقهاء ورسم منها العلماء معالم الإمامة والنظرة الى المتخلفين عنها…

ليس من الصدفة أن يكرر الحيدري مقولات فضل الله، ولا أن ينسجم حزب الدعوة مع شريعتي، ويخضع الآصفي وهكذا العسكري الذي كان يجاهر بإدانة الثورة والطعن في شخص الخميني، تراه بخع كعبد قِن للقيادة الجديدة!… إنه اتحاد المشرب والتقاء الخط الفكري والاجتماع على الباطل.

إن الحيدري الذي يستخف بأحكام الشك في ركعات الصلاة وأشواط الطواف، ويجهل حرمة قطع العبادة، ليس مفلساً في الفقه فحسب، بل في العرفان الذي يزعمه ويدعيه… إنه لا يعرف قيمة الولوج في الصلاة والدخول ـ من خلال تكبيرة الإحرام ـ في حرم الله والمعراج إلى الملكوت، وإلا لما هتكها وهدمها بهذه السهولة والاستخفاف. تماماً كما يجهل خطر أحكام الله وحرمة حدوده فيفتي لأتباعه ويلزمهم برسالة عملية “ملطَّفة” وأحكام مخففة لا تمثل حقيقة فتواه!؟ 

إنها فئة ضالة، أخطر ما فيها هو حركيّتها، نشاطها وإعلامها، ما يلبس على العوام حالها، فتحسبها في عداد الدين وتسجلها على التشيع… فالناس تميل إلى الدعة والراحة، وتحب تخفيف قيود الشريعة، وهؤلاء يوفرون ذلك بلا كلفة ولا مؤونة، فيقع في حبائلهم المغلوب على أمره، دون أن يخزه ضميره وتؤنبه نفسه ويلومه وجدانه، فهو في دائرة الدين ونطاق الملتزمين!

علينا أن نميز ونفرز أتباع مدرسة الحداثة والضلال هذه، التي تستخف بالحديث وتستهزئ بالتراث، وتهتك الفقه، وتزدري المنهج الحوزوي، يجب أن يفرزوا ليُفصَلوا عن المجتمع ويمنعوا من بث أباطيلهم وأضاليلهم تحت غطاء الأخلاق تارة، والتطور والحداثة أخرى، والحركية ومعارضة الحكومات ثالثة… ورابعة لعلها ستكون الأخطر عندما يُدفع بسيد محمود الهاشمي للمرجعية كما يدبرون ويخططون، فيلبسون على الناس بالعلم والتخصص، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 

7 آراء حول “جذور ضلال الحيدري

  1. ” ورابعة لعلها ستكون الأخطر عندما يُدفع بسيد محمود الهاشمي للمرجعية كما يدبرون ويخططون، فيلبسون على الناس بالعلم والتخصص ”

    سؤال: هل ترى أن لسيد محمود الهاشمي حظًا في أن يكون المرجع الأعلى للشيعة -كما يريد البعض- بعد عمر طويل للمرجع الأعلى (دام ظله)؟

    إعجاب

    • مرجعيته تعتمد على الدعم الحكومي (الإيراني)، والنتيجة التي يخلص إليها تقاطع مصالح وقناعات صناع القرار هناك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تخدمه استراتيجية حاكمة على هذا الصراع، هي ضرب حوزة النجف وهز المرجعية فيها بأي شكل وصورة… ولكنه لن يتمكن من المرجعية العليا بأية حال، وهذا مؤكد ومسلَّم.
      فهو قد يتمكن من إحراز شرط العلم وينجح فيه، ويجتاز العوائق التي عثرت فيها المشاريع الإيرانية المشابهة كاليعقوبي والمدرسي والحيدري، ولكنه سيسقط ويخفق في شرط العدالة، وقد قحم الساحة السياسية الإيرانية بلوثها الذي يدنس العدول والمقدسين (ولا سيما في شهادات الزُّور التي أضل بها أفواجاً وأفسح لأخرى وأتاح لها الذريعة)، فكيف به وهو الضعيف أو الفقير على هذا الصعيد؟!

      إعجاب

التعليقات