حتى لا نخسر السيد منير

هناك طريق لكل هدف، وباب لكل بيت، ونطاق لكل حقل، وميدان لكل حرب، وساحة ومضمار لكل شأن وشيء… وهناك مادة للموضوع، وبضاعة للحانوت، ومهنة للحرفي، كلٌّ في محله ومكانه، وفي دائرته وشأنه. ذلك قبل ظهور الأسواق المركزية و”السوبر ماركت”، قاتل الله هذا “السوبر”، فأغلب بلاءاتنا منه، أخذ الجميع يصبو نحوه، وكلٌّ يريد أن يكون مثله: متميزاً، خارقاً، جامعاً، مستحوذاً… دكان واحد، يبيع البقالة والخضار واللحوم والحبوب والمرطبات، ثم الأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية والألكترونية وحتى ألعاب الأطفال، وكل أثاث ومتاع!

وإذا كان هذا من دواعي السير التصاعدي للحياة المدنيَّة ومقتضيات تطوُّرها، حين لم تترك سعة في الوقت تسمح للإنسان بجولة على الأسواق، وشراء يومي لحاجياته، فجمعتها له في مكان، وهيأت له البرادات والمجمِّدات، وصرفته ليستهلك وقته في “الأخطر”، ولعمري ماذا عساه أن يكون غير توفير المال، لتكتمل الدورة، دورة السعي واللهث اليومي غير المتناهي… فهذا المشهد في الشخصية الاستهلاكية، نراه في جبهة أخرى، هي العلم، قد جاء معكوساً! فالحقل العلمي، ما زال ينحى في التطوُّر بما يأخذ صوب مزيد من التوسُّع والتفريع والتخصص والتركيز، ومقارنة حقول الطب وفروع الهندسة وأقسام التكنلوجيا في بداية القرن العشرين مع ما بلغته في نهايته وصارت فيه اليوم، تبدو كطُرفة تحكى ودُعابة تلقى.

في ضوء هذا وذاك، من البديهي أن تكون هناك نطاقات للحركة تخص كل شريحة اجتماعية أو منهجية علمية أو مدرسة فكرية، ساحات وميادين، سمها ما شئت، يتحرَّك في نطاقها هذا ويخضع لمعطياتها ذاك، ويتقدم المجتمع وتمضي الحياة وفقاً لذلك… والتيار الديني العامل وفق مباني وأُصول المدرسة الإسلامية، ولا سيما الشيعية، له حقله ونطاقه الذي يتحرك فيه، ولهذا الميدان رسالته ومواده ومعالمه، سِلَعه وبضائعه، ومن بعدُ نتائجه ومخرجاته. وإنما يقع الخلط وتتحقق الفوضى عند التداخل، واقتحام أو توغل رجال ميدان ما في حقل وميدان آخر، يفتقدون التخصص فيه ويعانون من الغربة. وتتعقد القضية لتصير أزمة خطاب وأحياناً هوية، لما يقع ذلك من رجال وأعلام مشهود لهم، كما كان من المستشرقين، ومن رجال “النهضة العربية” (التنويريين) الأوائل، الذين أخذوا ينظِّرون في الدين، ويجاهدون لتجديده و”إصلاحه”! لا من طارئين يتسلَّقون، أو تجاريين يتكسَّبون، مثل الحثالات التي تبعتهم اليوم من قبيل فضل الله والحيدري، ولسان حالهم دعنا “نخوض مع الخائضين”.

وإذا كانت الشكوى من توغل الأغراب، وتطفُّل غير المتخصصين، وخوضهم في مفاهيم وأحكام الدين، هي القضية المتكررة والأزمة المشهودة من بدايات حركة التغريب التي تسمَّى بالتنوير والحداثة إلى زماننا هذا، فإننا نشهد اليوم صورة مقلوبة ومنظراً لا نحسد عليه من تطفُّل “رجال” الدين وتدخُّلهم في حقول الطب والهندسة والفلك والرياضيات والاقتصاد، ناهيك بالتربية والاجتماع! وهذه قضية علينا التوقف عندها، وحسم الأمر فيها قبل أن تتحول هي الأخرى إلى أزمة، وتصبح معضلة، ولا سيما أن روافد التأزيم ما انفكت تضخُّ وتضخِّم، فهي تستمد من نفس العين الكبريتية، وتقرأ في نفس الكتاب الذي يحسِّن للطرف الآخر تدخُّله في الدين ويغريه ويملي عليه من “سجين”!

وببيان بسيط وحاسم، سيعقبه ـ إن استمر هذا التشويه ـ موقف شديد في النهي والزجر والتصدي والتقريع… علينا أن نعي أنَّ رجال العلم والفقاهة، والتهذيب والتربية، والوعظ والإرشاد في الحقل الديني يحملون رسالة وحيدة، مرتكزها وجوهرها: سوق الناس إلى الله سبحانه وتعالى، والأخذ بأيديهم لما ينجيهم في أُخراهم، أي الإيمان بـ “الدين” والعمل به. ويتركون في جانب من حركتهم هامشاً لـ “ولا تنس نصيبك من الدنيا”، دون تحضيض وترغيب، ولا تزيين وتشجيع، فالنوازع البشرية الطبيعية كفيلة بأخذ الإنسان صوب هذه، لينصبَّ العمل بعد حين على نفيها والتخلُّص من آفاتها، والردع عن التمادي والإغراق فيها.

السيد منير الخباز، منذ أمد وهو يخوض في غير حقله، ويسعى لتطعيم محاضراته ومنابره ومجالسه بشيء من العلوم التجريبية، لا على نحو الاستشهاد العابر، والطرح المجمَل الذي يُرجع الأمر إلى أهله، بل بشكل معمَّق ونحوٍ تحقيقي شبه تخصصي، وقد افتتن به جمع من المؤمنين، ما أغرى بعضهم بمحاكاة طريقته وتقليد نهجه والعمل وفق خطته، فكأنه بصدد خلق اتجاه وتيار يغيِّر نمطية المجلس الحسيني إلى محاضرة في الفيزياء وندوة في الطب أو الكيمياء، وهذه لوائح إعلانات الحسينيات عن برامجها، غدت كلمات متقاطعة وجملاً رنانة تحكي عن “خروج سلس من التضخم الأبدي” كورقة تناقش “ستيفن هوكنج”، ولك أن تقرأ بقية السلسلة من هذا الإيحاء الذي تملَّك أحدهم، والمستمعون الصم لا يعرفون عن إرث الأئمة الأطهار إلا مقولة “ليس عندنا صِحاح”، ولا عن الإمام الهادي إلا “باتوا على قلل الجبال”!,,, لست وجلاً من ذلك، فلن يلبث هذا الطارئ مديداً، ولن يسعه الصمود طويلاً، وسينفذ سريعاً مخزون الفيزياء، وحتى علم النفس والاجتماع، ويعود الشارد إلى سربه والباذر إلى حقله، ولا أقول الآبق إلى مولاه، بل سيرجع الطبيب الدوار إلى عقاقيره ومراهمه، ويستأنف عرض بضاعته وترويج سلعته.

ولكن الوجل والخوف يأتي من أمر آخر… من التأثر بالتيار الحداثي ومحاكاة مفاهيمه وأفكاره، والنزول عليها، ثم عرضها في صميم ساحتنا، وتناولها في خاص معاقلنا وحكر قلاعنا، أي المجالس الحسينية، وإلقائها كمسلَّمات علمية وبديهيات اجتماعية أو حركية… من قبيل طرح “قضية المرأة”.

ولو تدبرت وتأملت شيئاً لوجدت أن ليس في ثقافتنا الخالصة ولا في ساحتنا الأصيلة وميداننا الديني قضية باسم المرأة! ولاتضح لك أن هذه من مفردات العلمانية والمدنية (المضادة للدين)، ومن مقولات شرعة حقوق الانسان، وقضايا اليونسكو والأمم المتحدة، شأنها شأن السلم والإخاء والمساوة والتعددية، التي رفعتها الثورة الفرنسية وتبنتها القوى المسيطرة على العالم.

نعم، هناك أزمات أخلاقية وتخلُّفات روحية وترديات سلوكية يعيشها المؤمنون الملتزمون على مختلف الصعد، في التعامل مع المرأة والرجل والأبناء والأسرة والمجتمع والحق العام، هناك فشل وإخفاق في آداب العِشرة ككل، وهناك آفات، معلنة ومضمرة، تستوطن النفوس، كِبرٌ واستعلاء وخيلاء، وغضب وتجبر وعناد… وحصر الأزمة وتخصيص القضية بالمرأة، دون بقية عناصر المجتمع وعوامل الحياة ومفردات العيش، ليس من مقولاتنا ولا من قضايانا، بل أمر مندسٌّ وحالة متوغلة خلف الخطوط، ومهرَّبة على حين غفلة من رقابة الوعي والبصيرة، وخلسة عن نظارة النقاء والأصالة!

وإنما اخترت هذا الشاهد لما يظهر من تبعات التمادي فيه والانسياق خلفه، فهو الباب الذي أفضى إلى تحدي القرآن الكريم والمجاهرة في معارضته عبر نداء المساواة في الإرث، وهو مدخل المطالبة بتولي القضاء، وحرية الحركة (إسقاط إذن الزوج في الخروج من البيت)، والتراخي في الحجاب، والاختلاط بالرجال. ومن عجب أن تكون ذريعة إقحام العلوم التجريبية وحجة تناول القضايا العصرية، هي مواجهة الغزو الثقافي الغربي، والحال أنهم يعيشون الغزو في دواخلهم ويمارسونه بأنفسهم، فالاحتلال يضرب أطنابه في صدورهم، ويبني أعشاشه وأوكاره في عقولهم، فيجترُّون مفرداته ويكررون مقولاته ويستنسخون قضاياه، ثم يزعمون مواجهته وحربه!

إنَّ الصرخة التي يرفعها الحداثويون في قضية المرأة معروفة المنشأ مفضوحة الهدف، تراوح بين إملاءات مضارعة الغرب ومداهنة العلمنة، وبين دغدغة مشاعر النساء الضعيفات، ناقصات العقل والدين، إما كسباً للشعبية وخلقاً للكاريزما، أو استمالتهن خناً وخيانة،  وهي مرتقبة من أمثال متمشيخ جهول، تتدلى غرته من تحت عمامته، يصبغ صفحته بلون الورد أو البنفسج، يخضع ويتأنث، و”يحاضر” في النساء باسترخاء حتى ترجو كل ضعيفة أن زوجها بهذا اللين والهوادة! والسيد منير مشهود له بالعفة والنزاهة، والجدية والرجولة… فما له والتباكي على جراح محمد عبده وقاسم أمين؟ وإسعاف صرخة هدى الشعراوي ونوال السعداوي؟

نعم، هناك واقع مشهود، لا يجحده إلا غافل أو مكابر، فلا أحد ينفي “وقائع” تضج بها الساحات وتحتدم فيها النزاعات. هناك معارك عظيمة في عالم السياسة لها تأثيرها المباشر على حياتنا، ومثلها في الصناعة والاقتصاد والإعلام ومختلف الساحات، حتى ميدان الرياضة، ودنيا الأزياء والكماليات، فإن حجم الإشغال والإلهاء، والأموال المتداولة فيه تبلغ الترليونات، بما يمكنه أن يقيم نظاماً هنا ويسقط دولة هناك!… فهل نحن مكلفون بالدخول فيها وتناولها بالمعالجة؟! من المؤكد أنها ليست مياديننا، ولا تشكل جبهاتنا، والمعارك فيها وهمية، والانشغال بها انحطاط وسفاهة، فالحقائق في مكان آخر، والصراع في جبهة أخرى! وهذه مغريات تستدرجنا على طريقة البالونات الحرارية التي تنثرها الطائرات المغيرة.

وهنا يأتي دور العالم الرباني في انتشال المؤمنين الأخيار من التغرُّب والاغترار، ونجاتهم من الخوض في هذه العوالم العبثية، التي تستنفذ طاقاتهم، وتهدر إمكانياتهم، وتضيِّع أوقاتهم، وتتجلى وظيفته في إنقاذهم من تصديقها والنزول على معطياتها، حين يتصدَّى للواقع المهيمن، فلا يفسح له أن يستقر في النفوس كحقائق، ويكافح مظاهره وأدواته فلا يسمح له أن يغلب العقول ويسقط الألباب لصالح مفرداته… إن الوقائع ليست إلا حالة عارضة، ولا محالة زائلة، ورسالة الدين تقوم على إلفات الأنظار وإذكاء البصائر وأخذ القلوب صوب الحقيقة، وهي أننا في سفر عابر، وعلى جسر، والبيوت لا تبنى على الجسور والقناطر، وأن أحسِنوا دينكم عقيدة وسلوكاً، فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وأن الآخرة هي الحيوان.

إن الانتصار لمقولة الخوض في هذه الأمور من منطلق أنها واقع معاش لا يمكن تجاوزه، هو الأزمة الكبرى والأحبولة العظمى التي اصطادت أنصاف العلماء، أو السذج من المؤمنين المثقفين… دع الخطاب الدنيوي لأهله، وانهض أنت بدورك، ذر المكذبين والمدلسين وما يفترون، وانصرف أنت لشأنك. إنما العالم الرباني هو من لا تأخذه الأجواء ولا تغلبه فيجاريها ببيان يصدره بعد منتصف الليل، يلحق فيه ويتبع مواكب الرقص في الطرقات فرحاً بانتصار كروي! لأنه يعلم أن كأس العالم أكذوبة وزيف وزخرف، وإن اجتذب سكان الكرة الأرضية كلها، وسرت حمَّاه وتفشى وباؤه في البسيطة حتى عمَّها…

العالم الرباني هو الذي يكشف الزخرف والزيف، ويعرِّي الصوَر الحياتية التي يختلقها الشيطان ومنظومته الاستكبارية ليجتذب العقول الواهية، ويفضح المعارك والجبهات التي يفتعلها ليخدع بها الأنفس الضعيفة. المرأة والتعليم والرياضة والديمقراطية والتعددية والسلم والاستغراق في الكماليات واللهث خلف اللهو والشهوات، وعموم معطيات الدنيا، هي حراب إبليس وسهامه، والمعضلة الكبرى أن يحسبها المؤمن حقيقة، ويتلقاها وكأنها دائمة، وهذا ما يفعله تناولها في أقدس المواقع، وما يتأتى من طرحها من على أشرف المنابر، مما وقع ويقع فيه أرباب التيار الحداثي في المنبر الحسيني، وهذا هو ما ينسي الآخرة، ويورث المتلقي رسالة خفية غير مقروءة، أنها غير قادمة!

إن الراغبين والمرحِّبين بهذا النمط المحدَث هم قلَّة من المترفين الذين يتَّخذون الدين عضين، ينتقون منه ما يوافق أهواءهم ويحافظ على علاقاتهم ولا يزري بدنياهم، الإسلام يقع على هامش حياتهم أو ـ في أحسن الفروض ـ في عداد أساسياتها، أي مثله مثل العمل والأسرة والمال والمعاش، لا يشكل محوراً ولا أصلاً يدورون حوله ويقاتلون ويستميتون دونه… علينا أن لا نحفل بهؤلاء ولا نكترث بهم، إلا مع فضلة الوقت وعند بقية الجهد. ليس من الحق، ولا من الحكمة والحصافة والنباهة، أن ننزل على صنيعة الإعلام وتلقيناته فنحسب لهذا التيار خطراً وشأناً في الساحة الإيمانية، فنتخلى عن تراثنا وطريقتنا التي أثبتت جدواها عبر تجربة امتدت مئات السنين، في سبيل إرضاء هؤلاء!

أسمعني أحد الإخوة تسجيلاً للسيد منير يذكر فيه العريف أنه متأثر بمدرسة فضل الله الفكرية، وهذا مما لا أبني عليه ولا أجعله مرتكزاً، بل أعزوه إلى مرحلة سبقت النضج الفكري والعلمي الذي أخذه إلى الحوزة الأصيلة فصار من تلاميذ الروحاني والكوكبي والتبريزي، ما يجعله على النقيض من تلك التي بدأ منها أو نشأ عليها.

إن جبهات المواجهة كثيرة ومحتدمة، ونحن في أمس الحاجة إلى عطاء علمي متين يربط على قلوب المؤمنين، ينفي عنهم الريب والشك، ويزيح اللبس والزيغ، لصالح النقاء والأصالة والطهر، وقد خسرنا قبل سنوات الشيخ فاضل المالكي، وكان في صميم المعركة والخط الأمامي للجبهة، خسرناه لصالح مشروع شخصي، أرداه وصرعه وقضى عليه حين أخذه في متاهات لم يخرج منها، نسأل الله أن لا نخسر هذا السيد الجليل، وأن يعود إلينا غير مكابر ولا معتزاً بإثم.

التعليقات