البابا في النجف الأشرف

لا أظن أن الحبر الأعظم “خورخي” أو “جورجي”، يطمح أو حتى يخطر له في طيف خيال أن يخرج من زيارته النجف الأشرف بما خرج به قدوته الذي تسمَّى باسمه، “القديس فرنسيس الأسيزي”، من لقائه السلطان الأيوبي، الأخ الأكبر لصلاح الدين، الذي كان يحكم مصر وفلسطين، اللقاء الغريب المريب الذي تمخض عن السماح له بالتبشير في سائر بلاد الدولة الأيوبية، فكان قدومه إلى القدس بداية وجود وانتشار الرهبان الفرنسيسكان الذين أسسوا أدْيِرة في معظم مدن بلاد الشام، القدس ويافا وعكا وبيروت وانطاكيا وصيدا وصور وطرابلس وطرطوس، وصُرِّح لهم بفِرَق أمنية تتولى حماية أماكنهم المقدسة، أُعطيت لقب “حرَّاس الأراضي المقدسة”!.. إن بابا الفاتيكان يعلم في أيِّ زمن بتنا نعيش، ويعرف جيداً أين توجَّه ومَن قصد.

ثم إنها بالتأكيد ليست زيارة رعوية، فلا كاثوليك هناك ولا نصارى، ولا كنائس أو أديرة. وعندما تكون إلى النجف الأشرف، لا طهران القوة، عاصمة السلطة الدنيوية والقدرة الحاكمة، المتلهفة على موقع في المنظومة العالمية، يقيها خطر الإنهاء والإسقاط، ولا غيرها من العواصم العربية أو الإسلامية حيث الشيطنة الإغوائية للأكثرية… فهي إذن رحلة دينية حقيقية، سياحة في الأرض تتحرَّى ما في السماء. بهذا يكون الرجل قد أحسن الوجهة وأتقن الرمية وأصاب الهدف، لقد جاء البيت من بابه، وأتى صاحبه في محرابه.. أمَّه شخصاً وقصده موقعاً ومكاناً، رجاه في النجف الأشرف عند عليٍّ عليه السلام، أصله وموئله، وطلبه في السيستاني، نائبه وخادمه،، لذا، سيُعقد هنا أمل، ويرجى فلاح وظفر.

ودعني أترك للقارئ الكريم فسحة، ينطلق من خلالها في هذي الرحاب، ينتزع من الحدث المرتقب ما يشاء، أو ما يطاله فكره وتبلغه فطنته وتأخذه عقيدته… وليترك لي أن أفعل!

سينكشف لـ “خورخي ماريو بيرجوليو” (البابا فرنسيس) في النجف الأشرف “السر”، ولعلَّه سيوافيه هناك ويتلقاه، إذا أخلص في روحانيته، وصدق في “مسيحيته” أو “نصرانيته”، فكان حقاً من أنصار عيسى إلى الله. سيقف بالحسِّ بعد الروح، بما ينفي كلَّ ريب في نفسه وشك، على الموقع اللاهوتي الأعظم في الأرض، بل في الوجود. ومن خلال النيابة العامة التي سيلتقيها، سوف يتعرَّف على الناحية المقدسة التي تدير الكون والمكان، وتتحكَّم بالأفلاك والأجرام، وسيُصدَم من حجم القوة والجبروت الذي يملكه قطب رحى الوجود، وكيف يخلي لغيره ويغضي عنه ويتركه يستولي على ملكه ويعبث في مملكته! وما سيعقد منه اللسان ويسلب الجنان ويتركه في حيرة وذهول، أن يقف على العلَّة في ذلك، وهي أنه صلوات الله عليه يفضِّل رداء العبودية والتذلل للباري عزَّ وجل، فلا يعمد لإعمال قدراته وتوظيف ولايته، إلا بما يُبقي المسيرة الروحانية في مسارها، حتى يلاقيها في ميعادها المرتقب ويحقق وعدها المنتظر، مِنَّة من الله تعالى وفضلاً، ونزولاً على أمره وعملاً بإذنه وتسليماً لأمره. لا يتبرَّم ولا يشكو، ولا يضجر من الانقطاع والخلوة، ولا يستوحش من الوحدة والجفوة.

في النجف الأشرف، سيصعق الرجل بطيف، ولربما بحزمة من النور الذي تجلى لموسى في الطور، وإذا أحسن المضي على درب جُلجلته، يجر خطاه ويتنكَّب آلامه، متحملاً غضب المستبدين المستأثرين، وسياط الوثنيين الملحدين، وحجارة الجهلة المتعصبين،، وعاد مستسلماً لفطرته موافياً لإنسانيته، ثم بسط ذراعيه للصلب… فإنه سيتلقى، بل يغرق، في بحر الرحمة، ويتقلَّب في أطباق الفضل الإلهي، ويعرج في السماء ما شاء، ويرقى ليوافي “يسوع ربه”، يخبره إن أقصى أمانيه أن يصلي يوماً خلفه، وأنه ما كُرِّم بالعروج والبقاء حياً إلا ليحظى بشرف الانتظار، وليكتوي بلوعة الفراق والحرمان، وأن ليس لأُمه العذراء من فخر يفوق أنها وصيفة أُمه الزهراء، خدمت في ميلادها، وامتثلت قابلة بين يدي خديجة الكبرى مع سيدات نساء عوالمهن، ليشرفن بخدمة ميلاد سيدة نساء العالمين من الأولين والآخربن… ثم يهمس في أذنه:”إنه يا جورجي معشوق الوجود، لا يوسف زليخا ولا مفقود يعقوب، وهو قبلة الأكوان وقلب عالم الإمكان، لا قدس الأقداس ولا حتى البيت المعمور”.

أمام البابا فرنسيس في النجف الأشرف فرصة تاريخية للخلاص، وأن يؤتى أجره، من رأفة ورحمة في قلبه، برجاء أن تغلب رقَّته روحانية ابتدعوها ما كُتبت عليهم، ولا رعوها حق رعايتها، وسيسمع من سليل الرسول، بل من الفضاء الذي يطبق على الأجواء، ما يُفيض عينه مما سيعرف من الحق.

في النجف الأشرف سيتعرَّف البابا على إمام الزمان، وكيف تسعى السلطة والإمرة إلى “نائبه العام”، تقف على أعتابه تطرق بابه، فيتحاشى ويرفض، تُقبِل إليه فيحجم ويُعرض، وتتودَّد فيعفَّ ويعزف… وسيكتشف كيف يختار “ولي الله الأعظم” نوابه، وينتخب أحبابه، ويؤيد أولياءه. وسيفهم جانباً من أسرار تأييد “الناحية المقدسة” للسيستاني، وأسباب دعمه ونصرته لزعامة الطائفة دون غيره، وسيفهم جواب أبي سهل النوبختي وقد سُئل: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: “هم أعلم وما اختاروه، أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه، كما علم أبوالقاسم، وضغطتني الحجة، لعلِّي كنت أدلُّ على مكانه، وأبوالقاسم لو كان الحجة تحت ذيله، وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه”. لقد تأسس الأمر وقام على التقية، وما زال يمضي عليها، وسيبقى حتى الساعة الموعودة، يتقلَّب في أهل الطاعة والإخلاص، بعيداً عن أرباب الإذاعة والاستعراض، ناهيك بالمدعين المنتحلين، مهما علت أصواتهم وانتشرت صورهم وحكم سلطانهم.

في النجف سيعرف “فرنسيس” ما هي القوة، وأنها ليست في الصواريخ والطائرات المسيرة، ولا في النفط والمال والاقتصاد، ولا في المخابرات والجند الأشداء، ولا في الإعلام، الواقعي منه والافتراضي، نهض به صعاليك أو ذباب إلكتروني، ولا حتى في ضغوط جماهيرية وحراك شعبي وتعبئة مظاهرات… ولعلَّ الغطاء يُكشف عنه، فيرى السماء مكتظة بملائكة مدججين بالرماح والحراب، وأبابيل في مخالبها حجارة من سجيل، ترتقب أوامر القصف وتنتظر ساعة الانطلاق تجعل الأعداء كعصف مأكول… فالحُزم المتدلية من أشرطة المولدات الكهربائية المتداخلة والمتقاطعة، تصنع مظلات لرصيف شارع الرسول، لن تحجب السماء هناك، ورائحة الدهين والشواء المنبعث في الأرجاء، لن تحول دون عبق لها يضوع، تلتقطه مشام الأولياء، ويسري إلى مَن يريد الله له السعادة والخروج من الشقاء!

سيرى البابا في النجف الأشرف، رجل السلم والرحمة الذي امتشق السلاح وأظهر الشدَّة والقوة، عندما طغى الإرهاب التكفيري وتآمرت القوى الكبرى وغابت الدولة، حتى إذا قضيت المهمة وأُنجز الواجب، عفَّ عن مغانم السلطة وترفَّع عن مطامع السطوة، وأبى إلا ما يرسِّخ الكيان السياسي للبلاد، عبر المنظومة المدنية المتفق عليها لجميع الطوائف والأديان… دون عُقَد القوة ومركبات نقص الهيمنة، ولا تطلُّعات تأخذ البلاد والعباد في فوضى وهدر الدماء بلا طائل، غير مزيد تعقيد وتأزيم، وتوظيف للعراق ورقة على مائدة مقامراتهم.

الزيارة التاريخية ستكتسب قيمتها العظمى وتبلغ حظها الأوفر الأقصى، إذا انقلبت روحانية، وهو خيار مبذول من منابع البابا فرنسيس وجذوره، ورهان على خلفيات الظلم والفقر والبؤس التي انحدر منها، واستضعاف عاشه في الأرجنتين، يفصله عن برجوازية كنسيَّة ما برحت تستأكل بالدين، وتنأى به عن تحالف ماسوني ما زال يتحكَّم بالقرار ويقود المؤمنين… وإذا لم يكتب لها ذلك، فإن دلالتها السياسية تامة وحاسمة، وهي الفراغ من الزعامة الشيعية في العالم، وتراجع الخيار الإيراني، في حال قبوله، إلى حدود الدولة، دون السلطة الروحية والقيادة الدينية. وهذا ما يلهب القلوب الحاقدة ضراماً، ويهيج الأقلام المرتزقة تيهاً وضلالاً، فنحن نعرف جيداً ما الذي يوجعها، ولا سيما جراء لندن، ومن أين يهيج عليهم الألم وتسكنهم المحن، “الخشب المسندة” قاتلهم الله أنا يؤفكون… وكما أنشد عبدة بن الطبيب: إن الذين ترونهم إخوانكم، يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا!

التعليقات