لبنان ينادي السيستاني…

مما لا شك فيه ولا مراء، أن سهام المسؤولية عن الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، تتوجَّه إلى غرضين وترمي هدفين، سجل التاريخ التبعات السياسية والأخلاقية وألقاها عليهما: المنظمات الفلسطينية المسلحة، والمارونية السياسية بميليشياتها الانعزالية. على هذين التيارين وقع عار الخطيئة وجريرة الدمار وخزي المآسي والويلات، وليست المذابح الجماعية آخرها.

أما اليوم، إذا وقعت حربٌ أهلية ثانية، وهذي طبولها تقرع ونذُرها تترى ومقدماتها تطوى… فإن المسؤولية فيها ستتوجه إلى الشيعة! وسهام التهمة والإدانة ستنصبُّ عليهم وتنهمر وابلاً يغمرهم، أو يغمر الحزب الشيعي الأقوى الذي يمثل الامتداد الإيراني، وما يشكِّله من حرفٍ نافر ورقم نشاز أمام إرساء معادلة عالمية لشرق أوسط جديد، وتوزيع محدَث لمناطق النفوذ والهيمنة فيه، هذا ما سيسجله التاريخ إذا وقعت الكارثة لا سمح الله. وذلك بعيداً عن التقييم العادل والتحليل المنصف، فليس هذا ميدان الحقائق ولا الذي تعنيه الوقائع! وإلا، فالحقُّ أنَّ علل الحرب وذرائع تفجرها التي تقف على أبواب لبنان، تطلبه حثيثاً بطَرقات متلاحقة، بل تركله بشِدَّة لتقحمه وتلجه.. تفتعلها أذرع وترمحها أرجُل غير شيعية. ومن المعلوم الذي لا يخفى أنَّ جميع الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية، هي عميلة لدول وأجهزة مخابرات أجنبية، وأنها تلعب أدوارها على إيقاع وإيماء أسيادها، الذين يدفعون بتهوُّر لا يبالي بالبلد، ورعونة لا تكترث بالشعب، ويقودون نحو فوضى وانهيار سيفرغ حرباً جديدة. حتى الحراك الناشط كامتداد للربيع العربي، والعناصر التي تُسعر أواره، وتصعِّد وتيرة إغلاق الطرقات ورسم خطوط التقسيم المناطقي والطائفي، ومعها فضائيات تواكبها ومواقع إعلامية ومنصَّات تغذيها، كلها تمتثل أوامر وتعليمات تأتيها من سفارات ودوائر مخابرات قوى عظمى أو إقليمية، تريد إنهاء الامتداد الإيراني وقطع يده المتمثلة في الوجود الشيعي القوي بأي ثمن، وإن كان الحرب… لكن التاريخ سيتغافل عن هذا كلِّه، وسيكتب ما يمليه الأقوياء ويريده الطغاة، وكان ـ على مداه ـ يطري الزيف ويثني على الباطل ويزخرف الكذب ويعظِّم الحقير، ويتجاهل الحقائق ويهمل العظائم، يسجِّل عهد هارون الرشيد عصراً ذهبياً للحضارة الإسلامية، ولا يذكر شيئاً عن سجن إمام عصره وحجة زمانه موسى بن جعفر عليه السلام، حتى يحاججك تافه خاضع لإملاءاته، بأن عليك الخروج من قوقعة الأنا والذات الضيقة، والنظر للإنجاز الحضاري والموقع الذي تحقق للأمة الإسلامية في زمانه (تماماً كما يسوِّغون اليوم للسكوت عن هتك الدين ومعالمه واستباحة مقدساته لصالح الإنجاز السياسي والعسكري)! وما زال صلاح الدين الأيوبي مبجَّلاً معظَّماً، تؤلف في أمجاده الكتب، وتُصنع الأفلام السينمائية، وتطمس حقيقة جرائمه ولا تذكر خياناته!

ليست المأساة في البطالة وانهيار العملة وسقوط المنظومة التجارية بعد الاقتصادية، وانقطاع الكهرباء ونفاذ وقود السيارات وتفشِّي الوباء واستحكام الفقر، وإن كان خطراً يناهز الكفر، وميداناً ينبغي أن تشهر فيه السيوف وتخاض المعارك.. لكن الخطاب المثالي والصيغة النموذجية تقرأ ذلك شأناً وطبيعة للحياة الدنيا وسيرة المستضعفين الموعودين بوراثتها في نهايتها. ولا سيما أنَّ الفقر بات قدر سائر البلاد وكافة الشعوب، بعد أن عزمت حكومة العالم الخفية ـ كما تحكي المؤشرات ـ أن تعيد بُنية الدول والمجتمعات على أصلي: الغنى والفقر، بما يقلِّص أو يلغي “الطبقة المتوسطة”. فالظاهر أنهم ما عادوا يطيقون نماء وتوسُّع هذه الشريحة لتكون الغالبة، لا في الشعوب والمجتمعات ولا في الدول والحكومات، والمشهد العالمي القادم الذي يعدُّون له، لن ترى فيه إلا بلاداً غنية متسلِّطة، وأخرى فقيرة مغلوبة على أمرها، ولا محل فيه لدول نامية طموحة متطلِّعة وثَّابة، ولا لطبقة اجتماعية وسطى تتوفر لها سائر الخدمات وتؤمَّن كافة الحاجات في حدٍّ متوسط يخرجها من الفقر والعوَز، وإن لم يبلغ بها الرفاه والرخاء، فتتطلَّع للمزيد وتطمح إلى الغنى والثراء، ومنافسة المستأثرين “الكبار”!.. لا أدري أمن فرط جشع ونزعة استئثار، عبر صيغة تحتال على شحِّ الموارد باحتكارها لخاصة طبقتهم؟! أم هو الطغيان والاستكبار الذي يلتذ بامتهان الناس وتعميق الهوَّة التي تفصلهم عن “العامة”، ويلزم ارتهانهم في الفقر وإشغالهم بتحصيل ما يسدُّ رمَقهم، ويصرفهم عن التطلُّع إلى عروش ومقامات “أسيادهم”؟! أم هو الخوف من استنساخ حالة المارد أو التنين الصيني الذي بنى شعباً شبِعاً، تمدَّدت فيه الطبقة الوسطى لتكون الكبرى، وتتحول من عامل معيق (بفقره) إلى رافد فاعل، كما هي في أوروبا، قلَب موازين الاقتصاد العالمي، فغدت الصين الرقم الأكبر في المعادلة الحاكمة اليوم، والقوة العظمى التي تعيد حالة “القطبين”!

إنما البحث فيما يُخرج الشيعة من هذه التهمة، وينجي المذهب من هذه الفرية، فإنَّ التاريخ لم يسجل على الشيعة وجودهم في موقع المعتدي يوماً، وهذا الذي يُحاك وينسج ليتلبَّسهم، ثوب لم يعرفوه في تاريخهم، فهم لم يكونوا يوماً سبباً في دمار بلادهم ولا هدم مجتمعاتهم، وطالما تحمَّلوا الويلات وقاسوا المحن والبلاءات ودفعوا الأثمان لصالح الوحدة والسلم والوفاق والوئام… وإذا كان وهن المذهب وسقوطه في نظر الآخر خطراً، علينا أن نحسب له وندفعه عن ديننا، وكان لتردي سمعته وسوء صيته موضوعية شرعية، فلعمري، إنَّ هذا الأداء الذي يستعدي العالم أجمع، ويحمله على التنفر من الشيعة وكُره رسالتهم، هو الذي يجب أن يتوقف ويُحجر على أصحابه والقائلين به، لا البكاء واللطم والجزع في الشعائر الحسينية!

وبعد خطر وهن المذهب وتشويهه.. هناك المأزق الذي تورَّطت فيه الجماعة وجرَّته على قومها، ثم التبعات التي سيُلزِمون بها الطائفة وستدفعه الأجيال القادمة من أحفادنا، الذين قد لا تخدمهم الظروف كما خدمت الحزب، فيحاصرون ويغدر بهم الزمان، كما فعل بأسلافهم، وما زال يلقاهم به منذ مئات السنين!

إن صيغة حزب الله، تحت أي مسمى طُرحت وفي أي قالب مرِن صُبَّت وسوِّقت، ليست محمولة ولا قابلة للهضم والعيش المشترك مع الآخر، لا السني ولا المسيحي ولا حتى الشيعي، لا في لبنان ولا أي بلد عربي آخر، ولعل الوقائع المستجدة تهتف بأنها سقطت حتى في إيران! هذه حقيقة يعيها الواعون وتدركها النخب الشيعية من شتى التوجهات، حتى بعض قيادات الحزب، ويعلمون أن الأجواء الإعلامية والفضاء المثالي الذي ينظِّر للتمهيد لدولة المهدي المنتظر، هي تلقينات طوباوية وتلفيقات سمجة، تفرز عند التطبيق ومحاكاة الواقع مفارقات صارخة!

على حزب الله أن يفهم ويدرك أنَّ الجهاد المشروع في زمن الغيبة هو الدفاعي الذي يرد العدوان فحسب، لا المتطلع إلى تطهير الأرض من رجس الظلم والاستكبار، والطامح لتحقيق حكومة العدل الإلهي في بقاع الأرض، وتحرير القدس من براثن الصهيونية، وباقي المقدسات من سلطات الجور، وأنَّ هذا الخطير الجلل هو دور الإمام المهدي فحسب، وأنَّ النصر المرجو والفرج المنتظر لأهل الحق سيكون على يديه حصراً.

وعليه أن يرجع ويكفَّ عن إهماله العمل بأشرف الفرائض، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بات فريضة مهجورة في قاموسه، ما ترك البلاد خراباً والدولة مرتعاً للفساد والشعب في ضلال، وهو يعظِّم أهل البدع، ويوالي المنحرفين، ويشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فصار الناس يخرجون من دين الله أفواجاً، وكاد الفقر أن يكون كفراً.

على الحزب أن يترجَّل عن صهوة غروره وطغيانه، ويعي أنَّ ما ينادي به ويرفعه شعاراً، أعجز أولياء الله من الأنبياء إلى الأئمة الأطهار! فادخروا له ولدهم ووارثهم الحجة بن الحسن صلوات الله عليه، وبشَّروا به وبالفتح والظفر والفرج القادم على يديه بقول أميرالمؤمنين: “لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”.. وأن الحلَّ والعلاج ليس في مزيد مكابرة وعناد، ومعارك وحروب وانتصارات موهومة، تدغدغ مشاعر العوام، وتبعث حماسة الذين لا يرون أبعد من أنوفهم.. بل هو في وقفة صدق تعترف بالعجز وتقرُّ بالفشل، وتوقف التخبط الذي ينحدر بالأمة ويسقطها في هوَّة سحيقة ستطول معاناتها في الخروج منها والتعافي من تبعاتها. عليه أن يدرك ويعترف أنه بحاجة إلى قيادة حكيمة بصيرة قادرة على إخراجه، وإخراج الطائفة من المأزق التاريخي الذي ينتظرها إن لم تبادر إليه…

إن السيد السيستاني هو المخلِّص الوحيد المتاح أمام حزب الله والشعب اللبناني، وللحزب أن ينظر في مراحل قيادته ـ دام ظله ـ للساحة العراقية ليستخلص العبرة والدرس، ويعود بالذاكرة إلى صوابية قراراته التي كانوا يعيبونها ويرمونها بالخيانة والعمالة! من رأيه في شكل وطبيعة المقاومة، وأنها يجب أن تكون سلبية تتمثل بالمقاطعة دون الجهاد المسلَّح، إلى إصراره على تدوين الدستور والاستفتاء عليه، والنضال لإرساء مؤسسات الدولة، وطي صفحة “مجلس الحكم”، إلى الحرص على إجراء الانتخابات النيابية وتشكيل مجلس شعب يختار حكومة، حتى فتواه التاريخية بالجهاد ضد الإرهاب التكفيري وإنقاذه البلد من السقوط والنظام من الانهيار، وقطعه طريق العودة على البعث وورثة صدام!.. فعل السيستاني ذلك كله دون أجهزة مخابرات تقمع خصومه وتفصله عن شعبه، وبلا ميزانية تهدر المليارات من بيت مال المسلمين، ودون أن تعلَق بعباءته وصمة عار واحدة من لوث الفساد أو الاتجار بالمقدرات أو استرخاص الدماء.. لم يبع السيستاني أو يتنازل عن ثوابت الدين مثقال ذرة، ولا فرَّط بأحكامه قيد أنملة، أو تراجع عن عموم مبادئه مقدار شعرة، مضى في أدائه السياسي وهو في صميم الدين (ولم يقلب الدين ليتوافق مع سياسته!)، ورسم الصورة الأتم للمذهب، وحقَّق أمر الصادق عليه السلام: “كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا”.. هكذا فرض السيد نفسه رقماً أعجز القوى العظمى فرضخت له واستسلمت، وأذعنت لإرادته واعترفت بقيادته.

هذا ما يحتاجه الشيعة في لبنان لخلاصهم، وهم يعلمون جيداً أنه حين يخرجهم من المأزق ويقودهم إلى الخلاص، لن يكشفهم عزلاً أمام العدو الإسرائيلي ولا غيره، ولن يسمح أن يسجَّل تنازلهم ضعفاً وهواناً، بل سيحفظ كرامتهم ويرسخ عزَّتهم… ولك أن تقول إنَّ الحاجة إلى السيستاني، هي صرخة وجدان جميع اللبنانيين الأحرار، شيعة وسنة ودروز وموارنة وأرثوذكس، الذين يبحثون جميعاً عن منجى ويتلهفون لمخرج يعيد لهم الاستقرار والأمان، بل هو ما سيقبله وينزل عليه بعد المسيحي والسني، الأمريكي والفرنسي والروسي، ولا يطيق أحد أن يعارضه ويخالفه حتى الوهابي… نعم، سينزعج الإيراني!

التعليقات