يوم حدثتني الشعائر…

في خضم السجال المحتدم، والنزاع المشتعل، بل الحرب الضروس القائمة بين جبهتي الولاء والمرجعية والشعائر، وبين جبهة الحداثة والحزبية والسياسة، في الإعلام وفي الكتابة، في التواصل الاجتماعي والخطابة..
كنت في استراحة الفراغ من هذا الموسم، أنتظر أن أتلقى في إثره “صك الأربعين”، فأنا واصلت الحضور ولم أتخلف عن مجلس الحسين من أول محرم، حتى إني غالبت وعكة نزلت بي في بعض الليالي كي لا أقطع هذا الحبل المتين، ولا تنفصم عني تلك العروة الوثقى…
وقد جاءت الاستراحة هذا العام لتعقب معركة شرسة لم يوفر العدو فيها بذيئاً من أساليبه ولا خسة في أدواته، ولم يدّخر وسعاً من جهده ولا شيئاً من طاقته…

هناك، في ذلك الحين وتلك الأجواء، وأنا في معتزل عن صحبي… نطقت الشعائر! وسمعت هاتفاً منها ينادي:
أي خدّام سادة الخلق والبشر! بوركتم وبوركت جهودكم، ربحت الصفقة وأفلحت التجارة، سوف أدخر لكم كل إحياء ونصرة ودفاع عني، سترونه في قبوركم روح وريحان، من لحظة قبض أرواحكم، حتى دفنكم، وعلى مدى رقدتكم في رياض جنانكم، ثم في الحشر والنشر حين تبعثون، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، هناك سوف أتمثل لكم وأتجلى، بقسمات السعد والبشرى، وأوافيكم بوجه الخير والبسمة، وأتلقاكم بطلعة اليُمن والأمان…

ألقيت السمع ساعة، وشنّفت أذناي ما طاب لي، حتى خَفُتَ الصوت شيئاً فشيئاً وتضاءل، وكأنه يؤذن بارتحال.. فناديته:
إلى أين أيها الحبيب؟ ماذا بعد، أما من نُصح وتوجيه؟ أين تريدنا بعد هذا؟

استوقفه سؤالي فعاد ليجيب:
لن أثقل عليكم، ولن أفسد ساعة الأنس هذه بخطبة عتاب ومنشور ملامة، وعريضة إسداء نصح وموعظة.. ولكن اعلم وأبلغ صحبك، أن جلّ ما أريده هو الإخلاص، وبعض إتقان..
أريد أن ننقطع إلى مخدومنا، نحن وأنتم طرق ووسائل تنتهي إلى المولى عليه السلام، فأحسنوا السعي وأتقنوا الأداء…

🔵 لماذا ترفع صور ورسوم غير أهل البيت في حسينيات بعضكم؟ الحسينية بيت المولى وداره، فلماذا ترفع فيها صور غيره؟ وبهذه الأحجام الجدارية؟ لماذا لا تلبث الكاميرات وهي تلتقط وتسجل مشاهد مجلس العزاء أن تسلط المنظر على تلك الصور، وتميل عن المنبر والخطيب إليها؟!
ألا ترون المرجع الأعلى، وهو عالم رباني واقعي، حظر ـ على الرغم من مكانته وعظمته ـ رفع صوَره في المحافل العامة، فلماذا يتهالك آخرون على صور “مرجعهم” وهو مدّع مزيف؟! أعلم أنها عقدة ومركب نقص، فالكبير لا يحتاج إلى ترويج وإعلام، ولكن الصغار يستشعرون في ذواتهم الصَغار، فيلجؤون إلى الدعاية والإعلان، ويمزقون الصور ويرفعونها فوق صور بعضهم بعضاً!

🔵 لماذا يتحول الإطعام الذي أصله التبرك وتأمين زاد المؤمنين حتى يتفرغوا ولا ينشغلوا بغير العزاء، إلى بذخ وترف، وتنافس يحرج الفقراء وغير المقتدرين من أصحاب المجالس؟.. بأنواع من الشواء، وأصناف الحلويات مما لذ وطاب، تبذل في الطرقات وكأنها ولائم أفراح؟.. من هي هذه الفئة التي تؤسس للمبالغة في كل شيء وتدفع إلى الإفراط في جميع أنواع العزاء؟!
إن إكرام المعزين واجب وهو أمر حسن ومطلوب، ولكن اجعلوا لهذا سقفاً، ولا تسمحوا أن ينتقل بكم عن جوهر الإحياء والتبرك إلى المنافسة والمزايدة.

🔵 لقد كفيتموني أعدائي حتى أُرغمت أنوفهم وألحقت بهم هزيمة نكراء، ولكنني في ألم ولوعة من المبالغة والإفراط، وهو يصدر من فئة منكم ويقع بينكم معاشر المحيين والمعظمين لي!.. ولا سيما العبث في أشعار المراثي واللطميات، وكذا الفوضى في أطوارها وألحانها. هل ضاقت السبل وأغلقت الآفاق حتى تجعلوا سُوَر القرآن وآياته لطميات؟ هل سُدّت أبواب الطعن والتشنيع على الأعداء حتى نتفنن في استفزازهم ونفرش لهم بسط الجولة والصولة علينا؟ هل أصبح همكم أن تتميزوا وتجتذبوا الأنظار بأي ثمن؟ ثم لا تبالون بالشبهات وبما تحمّلونني من تشويه وإساءات؟!
أعلم أن جانباً من المبالغة هو رد فعل على الحرب الشعواء، ولكن أين دور الحكماء؟ لا تسمحوا لأحد أن يخرجكم من وقاركم وينقلكم إلى فوضاه وجهالاته، فهذه طريق الهلاك وأول خطوات الضلال، الزموا النمرقة الوسطى وانهضوا بالعدل، والزموا حدود الشرع، ولا تغفلوا عن كيد الشيطان، ثم لا تبالوا حتى تجعلوه همكم ومدار حركتكم فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.

🔵 لا تفسحوا للخطباء المرتزقة، الذين يتجرون ويتسلقون على منبر المولى، يسوّغون ويسوّقون ولاءات ضالة مضلة، ويروجون مرجعيات مزيفة باطلة، ويعبئون لأحزاب وجماعات ومنظمات… إن البيت لأهله والدار للمولى، ولولاه لما حظي هؤلاء بمستمع واحد! فإذا حشد المولى لهم المستمعين كفروا بالفضل وبطروا بالنعمة وصاروا يدعون إلى غيره ويدلّون على من يوالون دونه!..
هذه سموم تفتك بي وآفات تقضي علَيّ.
وها أنا أحذر وأتوعد! إن لم يتب المتاجرون المستأكلون، ويسارعوا لإصلاح أنفسهم وتغيير نهجهم، سوف أفضحهم وأسقطهم من أعين الناس.

🔵 أيها الشعراء الصغار مهلاً ورويداً، لا ترنوا إلى مجدكم بهتكي، ولا تبتذلوا الفن باسمي! ليس كل جامع للمعاني بأديب ولا كل ملفق للقوافي بشاعر، وبعض ما “يُنظم” هو إلى البعر أقرب منه إلى الشعر!
أيها الرواديد المبتدئون لا تجعلوا بضاعتكم الاستخفاف بي، اصبروا وتمهلوا، تدربوا وتمرنوا، تلمذوا وتعلموا، عسى أن تفلحوا يوماً، ويجد المولى فيكم خيراً، فيأخذ بأيديكم ويرفع المخلص المجيد منكم، فيرزقه المال والشهرة، ويهبه المجد والمحبة في قلوب الموالين، كل ذلك إذا آن أوانه وحان حينه، وهو في علم الله وغيبه، لا يقدمه إعجالكم، ولا يسرع به تلهفكم، بل لعله ذلك يصرفه عنكم!

🔵 إخواني الكرام، أريد الوقار والاتزان، والحكمة التي تضع الأمور في نصابها وتنزلها منازلها وتدرجها في مواقعها… امنعوا المتهورين من قيادة هذه النعمة المحسودة التي تحدق بها الذئاب، أصلحوا هؤلاء وروضوهم بالرشد، وخذوهم بالموعظة الحسنة وبالرفق والمناصحة، فهم منكم، وجلهم يتمتع بالإخلاص ويعيش الشوق للخدمة، فإن أبوا وكابروا، فاركنوهم جانباً وامنعوهم من الصدارة، فلا شيء أضر على هذه المسيرة من أحمق يريد أن ينفع فيضر…

ختاماً…
إنني أقتات من الصدق والإخلاص، وأنفاسي ترك المبالاة بما في أيدي الناس، والانقطاع لإرضاء المولى، وطعامي وزادي الحذر من المنافسة… فسارعوا إلى هذه تحظون بالعناية الخاصة، وتكللون بالنجاح والفلاح.

التعليقات