قصة قصيرة : “المعارف” أنجس!

«عبدالجبار» ستيني من «الكرادة»، عاش “الزمن الجميل” بأغلب تفاصيله، ومال شطراً من حياته إلى اللهو، حتى دفعه قمع صدام إلى الدخول في الالتزام الديني والتقيد بالأحكام الشرعية: إن كان هذا عدواً للدين فسأكون أكبر المتدينين!

مثقف بعض الشيء، قرأ روايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، أكسبته الحياة خبرة تفوق ثقافته، لكنه يفتقد العمق والغزارة، وتعيبه السطحية ولربما السذاجة، يدّعي الوعي والتنوير، ويرفض التقليدية في الالتزام الديني، ويطلق عليها “رجعية”، بل يرمي أتباعها بنمطية جعلت الدين عندهم شيئاً من التقاليد الاجتماعية وأشكال العيش والحياة ليس إلا، لذا يتهمهم بعدم التديّن الحقيقي، ويشكو صوراً من التسيب الأخلاقي مشهودة في الساحة الإيمانية، لا تنكر.

ينطلق دائماً من تعال بل كِبر، مسهب في النقد ومفرط في الاعتراض، لا يعجبه شيء، ويعيش اعتداداً بالنفس يناهز الغرور، يصدر الأحكام على الناس ويقيّمهم سريعاً بلا محاكمة: هذا جاهل، ذاك متخلف، والثالث رجعي، والرابع يفتقد الروحانية، وأغلب المؤمنين ليسوا متدينين!..

أقصاه اللجوء السياسي أو هو في حقيقته لجوء إنساني، إلى بريطانيا، كما فـرّق شمله وشتت عائلته الكبيرة، بين دمشق وبيروت وكوبنهاجن ولندن…

أكثر ما يحزنه ويؤلمه سقوط ما حمل ويحمل من تعاليم دينية وقيم أخلاقية هجر وطنه بسببها، أمام واقع أصبح يعيشه بالعيان والوجدان، يصرخ بمفارقة بين ما يرى في تعامل “الكفار”، وبين ما يشهد من أبناء ملته، وحديث الحكمة يقول: الدين المعاملة.. هكذا كان يكرر، ويلحق بذلك: كل تعاليم ديننا مدّعيات وشعارات جوفاء، هنا الإسلام الصحيح، إنه في الغرب لا في بلادنا، وفي هؤلاء المسيحيين لا في شعوبنا الغارقة في الكذب والدجل والخداع، والفوضى والجهل…

كان معجباً بفرض القانون، في حركة المرور، وفي الإجراءات الحكومية، ومأخوذاً بسلوك الغربيين في التعامل، واحترام حق الآخر ومراعاة مشاعره..

حتى طغى هذا الشعور وحجب عنه رؤية أية سلبية في تلك المجتمعات والبلاد.

كان السماع آخر ما ترك من المحرّمات، فهجر أم كلثوم وناظم الغزالي والبستات البغدادية على مضض، وما زال الحنين يعاوده، فيختلس مقاطع عابرة تطرق أذنه وهو يقلب محطات التلفزيون يبحث عن الأخبار وبعض المسلسلات، قبل أن يعود إلى فضائيته الدينية المفضلة.

وهنا “العقدة” الثانية (بعد الغرب وتقدمه وانتظامه) التي يعيشها ويلاحقها في حياته، ولعلها مترتبة على الأولى: الفضائيات الشيعية..

كان يصنّفها، على الصعيد الفني، في الابتذال والتفاهة، وعلى صعيد الرسالة والمحتوى والهدف، في التكسب والاتجار.. ويراها قنوات دعاية عائلية رخيصة، تستغل الدين وتروج لمرجعية مزيفة، وتمارس الإعلام بسوقية السماسرة، وعاميّة تناهز الأُمية.. إنها طرق إثراء وشهرة، وسبل لأصحابها حتى يخلقوا القوة ويبسطوا النفوذ ليس إلا، والدين بضاعتها ومادتها، ترفع نكرات وتعظم حقراء، تسلط الأضواء على ظلام دامس يضيع فيه المشاهد ليضل ويتيه، ثم تتجاهل نجوماً متألقة في سماء العلم والفضيلة، وتغفل مواقع التقوى ونماذج الورع والزهد والعفة في الطائفة، مما يعدّ مفخرة للدين وعزاً للمذهب.

كان في هذا السأم والضجر، والنقد والشـكوى، حتى ظهرت فضـائية جديـدة ـ على حين غفلة ـ مثّـلت له طوق النجاة.. فهذه الجديدة عقلائية وروحانية، متزنة ورصينة، ثرية بمادتها وجادّة في برامجها، والأهم أنها بعيدة عن إسفاف تلك الخاوية العاجزة، التي قلبت جوهر البرامج التلفزيونية إلى حسينيات يرقى منابرها أسوأ الخطباء، فما أسهل أن تكرر تلاوة القرآن وقراءة مجالس العزاء، وتقول إنك تقدم أثرى وأفضل موضوع، وأعظم وأغنى مادة إعلامية، ودلني على من يرفض أو يتحفظ على ذلك لأهوي عليه بالدرة وأعلوه بالعصا!..

قتلتنا هذه الحزبية المتاجرة بالشعائر والمجالس، كرّهتنا بكل ما يقرب منها، وهي تمجّد عائلة وتعظّم أطفال هذه الأسرة وتخلق نجوماً من شخصيات بالكاد تضيء بقوة شمعة واحدة أو حجر طاقة سريعاً ما ينفد، فيخبو وينطفئ، فتلجأ للتكرار وتدخل في الإسفاف، وسرد قصص وحكايات وكأنها ديوانية وليست منبراً ومحاضرة ودرساً يفترض أن يبث علماً.

كان «عبدالجبار» متحمساً لفضائيته الناهضة وبديله المتألق الجديد، عاشقاً لصاحبها، فهو روحاني حكيم، وتربوي رصين، وعرفاني متفوق، يبث الأخلاق والالتزام بين الناس، وهو ليس من المعممين الانتهازيين الدجالين الذين يستغلون عمامتهم وحب الناس للدين الذي يمثلونه، فيعيشون عيشة الترف والبطر، يثرون ويصبحون من أصحاب الملايين، ويأكلون ما لذ وطاب، ويتمتعون بفاتنات النساء، ويركبون فاره السيارات… إنه ليس من هؤلاء، إنه معمم أصيل، ومتدين حقيقي، ملتزم صادق، وعابد زاهد… إنه يكتفي بالحشائش والخضار، ولا يأكل اللحم إلا مرة كل أربعين يوماً، ويقال إنه يبكي على إزهاق روح الدجاجة والذبيحة التي يأكل!

وكان قد آلىٰ على نفسه أن ينهض بالدعاية لهذه القناة، وحث معارفه وأصدقائه على متابعتها، وكان جل استدلاله على فلاحها ينطلق من مفاضلة ومقارنة يعقدها بينها وبين المبذول في الساحة من التي تتجر بالدين وتتبع حزب عائلة تدعي العلم وتزعم المرجعية… ثم من هالة نورية كان يراها تحيط بعمامة صاحب القناة وهو يلقي دروسه الأخلاقية… ووجه يتلألأ!

وكان ابنه يشاكسه ويمازحه، ويخلط الجد بالهزل فيعارض أباه: إنها قناة تدس السم في العسل يا أبتاه، تروج لحق، تلحقه بباطل… وصاحبها دجال من نوع جديد، أكثر دهاءً وإحكاماً في عمله من أقرانه وسابقيه.. كلهم جنود الشيطان، أولئك يغوون العوام، ويدلسون على السذج البسطاء، وهذا يخاطب المثقفين من أمثالك، ويلتقط ما يسقط من جعبة أولئك ويفلت من شباكهم.. وكلكم صيد إبليس وحصاد منجله!

: ألا تخاف الله؟! كيف تتهم بلا دليل؟!

: إنك تفعل هذا مع غيره! تتهم وتهاجم ولا تكترث! كيف تحمل هنا على الظاهر، وتقرأ ما بين السطور هناك؟!

: لا تقارن، إنها هناك مدرسة باطلة بنيت على مرجعية مزيفة.. وهذا هنا ابن الحوزة.

: بل ابن الدعوة.. هذا حزب وذاك حزب، كل ما هناك نزاع النجف وكربلاء!

: ألا ترى النور في وجهه؟! ألا ترى الهالة فوق عمامته؟!

: إنها خدع تصويرية ومساحيق مبيضة، لا نور طاعة ولا ضياء بصيرة وإيمان.. إنني أعرف هذا الرجل على حقيقته وأنت تعرف صورته التي يريد أن يظهر بها.

ما كان «عبدالجبار» يطيق سماع ابنه الأكبر «سرمد» الذي صار جَدّاً بسببه، وينهره أمام أحفاده وينصحهم: لا تسمعوا لأبيكم، هذا المغرور المتكبر! وكان يلحق ذلك أحياناً فيقول: متهتك لا يعرف الورع.

في صباح يوم الاثنين السادس من أكتوبر ٢٠١٤، بعد الفراغ من زيارة سيد الشهداء عليه السلام في عرفة، توجه «عبدالجبار» وابنه إلى مطار النجف الأشرف، واستقلا طائرة الخطوط الجوية العراقية المغادرة إلى بيروت..

تحركت الطائرة وهما يتلوان أدعية السفر وأذكار الحفظ والأمان، حتى استقرت عند بداية المدرج، فأطلق الطيار كل طاقتها، لتنطلق بأقصى سرعة تجاه الإقلاع فالتحليق…

فجأة! ضغط الطيار مكابح الطائرة المندفعة بقوة، وألجمها بكل ما أوتي من عزم وقدرة، ليوقفها.. ففعل، ولكن بشق الأنفس، وما تيسر ذلك حتى مالت عن مسارها وانحرفت بعض الشيء وكادت أن تنزلق وتخرج من المدرج…

توقفت مع الطائرة قلوب المسافرين الذين كانوا يملأون مقاعدها، وتنفسوا الصعداء، وهدأ الصياح.. وقبل أن يبدأ السؤال والاستفهام عن السبب، أخذ سخط الركاب وسبابهم يعلو! فقد شاهد المطلّون على النوافذ موكب سيارات مظللة، ومعها شاحنة تقطر سلّماً وضع ليترجل الراكب العزيز من السيارة ويصعد ليستقل الطائرة..

كان الركاب يشتمون الوزراء وحتى رئيس الوزراء ويلعنون استغلالهم للسلطة، وأين وصل ذلك وأية حدود بلغ..

ولكن الجميع فوجئ أن “المسؤول” الذي كاد الطيار أن يضحي لأجله بما يقرب من مئتي نفس محترمة، كان هذه المرة شيخاً معمماً!

انفجر «عبدالجبار» وفقد صوابه وأخذ يصيح:

لا يغرنكم هؤلاء المشايخ، إنهم ليسوا رجال دين حقيقيين، إنهم دجالون، هذا ما يشوه ديننا، هذا ما يجعل الناس تنتكس في التزامها، حين يرَوْن عمامة لا تبالي أن تقع كارثة في سبيل لحاقها برحلتها..

أين كنت يا حضرة الشيخ، لماذا علينا أن نبكر إلى المطار ونحرم من مزيد وقت للزيارة، وأنت تصل متى شئت وأنّىٰ طاب لك؟! ألا يفترض في المعمم التقوى؟! أليس من أوليات التقوى مراعاة حقوق المؤمنين واحترام مشاعرهم ووقتهم، وأن لا يبخس الناس أشياءهم؟!

كان «عبدالجبار» يحاول الإفلات من ابنه ليتوجه نحو بوابة الطائرة ليلقن الشيخ درساً لن ينساه..

وفجأة أُسقط في يده وهوى على مقعده، وقد ارتدت أنفاسه كمن دلق عليه دلو من الماء البارد فجأة، شهق شهقة ولم يزفر، ثم استلقى عاجزاً عن الحراك… فقد رأى «عبدالجبار» الراكب المميز والشيخ الخطير…

لم يكن الشيخ إلا مثله الأعلى!

صاحب القناة والمشروع والنهج الذي طالما بشّر به ودعا إليه! إنه الشيخ المتقدس والعرفاني الورع!

عندها لم يملك إلا أن بصق، وقال: أشهد أنك دجال! أشهد أنك أحكمت اللعبة وأتقنت الحيلة حتى غررت بي وخدعتني! “المعارف” طلعت أنجس…

وراح يكررها، وبقي على هذا طوال الرحلة، وهو يلفظ الجيم بالعامية العراقية، وهي في هذه المفردة كالمصرية واليمنية: أنگس.

🔵 مرتكز القصة وأصلها حقيقة، والواقعة حصلت ظهر الاثنين ٦/ ١٠/ ٢٠١٤، على متن الخطوط الجوية العراقية في رحلتها المتجهة من النجف إلى بيروت.. أما نسجها وسبكها فخيال وأدب.

رأي واحد حول “قصة قصيرة : “المعارف” أنجس!

  1. سبك رائع وأدب رفيع ، قلم لطالما استفدنا من مداده

    جزاكم الله خير الجزاء وأفضله ،

    إعجاب

التعليقات