قتلتنا المداهنة

تعود جذور المداهنة والمصانعة والركون إلى الظلمة والمنحرفين ومماشاة الضُلّال، وكلّ ما ابتلي به الوسط الإيماني من السلبية في السلوك والميوعة في معالم الهوية.. إلى أمرين، غرض ومرض:

“غرض”: طمع في مال، فرص للكسب التجاري والإثراء يُـتيحها رمز، ويقدمها وجيه، أو يؤمّنها حزب، أو منصب يتطلع إليه طامح، أو جاه وشهرة يصبو إليها متسلق، يمكن للرمز والوجيه والحزب أن يحققها له، بسلطته النافذة، وآلته الشيطانية (بالأوامر التنظيمية والإعلام).. فتراه يغض عن الضلالات ويتجاهل الانحرافات، ويخرس عن العيوب والسقطات، بل يعمى عن الجرائم والويلات، لا يرى ولا يسمع فلا ينطق، صُمّ بُـكم عُمي!
إنه عالم المصالح والعلاقات، فلماذا يفسدها بلا طائل، ويفرط في منافعها ويخسر مزاياها دون مردود؟!

أو “مرض”: خوَر في النفس وضعف في الروح، يورث الشعور بالصَغار والدونية، ويتملك صاحبه العجز وسقوط الهمة، وكذا الجبن.. يوقع المبتلى في المجاملة والتملق، والمداهنة والنفاق مما ينعكس في جانب أساس منه سكوتاً عن الحق وإغضاءً عن المنكر: ما لي والدخول بين السلاطين؟ سيسحقني هؤلاء الكبار الأقوياء، ماذا عساني أفعل قبل أن تأتيني الصفعة فتودي بي؟! إذن دعني أستأكل وأعيش.

فإن خرج أحدهم عن هاتين الحالتين، لا غرض يدفعه إلى مداهنة المبطلين المنحرفين، ولا مرض يغلبه على الركون إلى الظالمين الجائرين..

فالفرض والوجه ـ عندها ـ ينحصر في الجهل والاستغفال.

فقد يكون أحدهم متعلماً، ولكن لم يخرجه تحصيله العلمي عن تخلف الفكر وسذاجة الذهن، وبقي قابعاً في أمية الوعي، معانياً من تيه البصيرة، يشكو ذبذبة الرأي واهتزاز الشخصية والعجز عن اتخاذ القرار والإقدام.. متطلعاً إلى من يلقنه الموقف الشرعي، فلا يأبى أن يكون قائده ورائده الذي يشخّص له تكليفه متمشيخ تتأجج فيه الشهوات وتضطرم النزعات وتتصارع الجهالات، صفر اليدين من المعارف الإلهية والعلوم الدينية!..

فإن لم يحظَ (لفرط هوانه) بعناية ذاك فأهمله ولم يلتفت إليه، تراه يرتقب إيحاءات العقل الجمعي لترسم له مساره، فيتحرك وفق قرارات الحزب وتعليمات “مراده” تقوده وتأخذ بيده كما يُفعل بالصغار والنساء، لِمَ لا وقد رضي لنفسه طبقة “حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال”؟!

ترى الشيب غزا لحيته وتجاعيد الهرم زحفت إلى عنقه وأحاطت بعينيه.. لكن دون خبرة مكتسبة، ولا ثمرة تجارب معاشة، ولا مسكة من عقل تضفي عليه اتزان الكبار وتهبه وقار الأقوياء؟!

لا تدري ماذا كان يفعل طيلة حياته وكيف أضاع عمره؟! وأنت لا تراه إلا في سمْت يوحي بالامتلاء ومظهر يشعرك بالتمكن والاكتفاء! وما الأمر فيه ومنه إلا خواء! حوم في مدار واحد، وسبح في فلك وتر، لم يخرج منه يوماً ولا انفك، أُعجب بشخص فلخّص الدين في فكره، وانتسب إلى حزب فرأى الإسلام متمثلاً به لا غيره! و”مراده” في الحوزات ومحافل العلماء وميدان التخصص القادر على الحكم والتقييم، من المجاهيل النكرات، لا يشخصه أحد ولا يعرفه إلا بإقامة قرين له هالك، ومن باب صيتهم السياسي وشهرتهم في صدم العلم وإعاقة حمَلته، والإضرار بالدين وإضعاف خدَمته!

فلماذا يعشقهم هذا المسكين وماذا وجد فيهم؟! لا تدري!

يضحي في سبيله ولأجل مشروعه بأشرف الفرائض، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيبتلى بمداهنة الضُلّال والفجّار، ومجاراة هتَكَة المقدسات، ويقع في معضلة التوجيه لحركات تقوض المذهب وتهدم الدين!.. فيحتضن شخصيات مثل فضل الله والحيدري، وينهض باحتجاجهما، يلتمس الأعذار لهما، ويذود عنهما ويدافع بكل ما أوتي من عزم وقوة، ودهاء..

ثم يوجّه ويسوّغ لكل ذلك ويعدّه من صميم الدين، لذا لن تمسه النار وإن ركن إلى الظالمين!.. وفي أحسن الحالات، أو قل إذا ضاق عليه الخناق وعجز عن الفذلكات المزخرفة والحيَل الموجهة، اكتفى بالسكوت والحياد، وراح يخلط بين المداراة والتقية وبين المضارعة والمداهنة، وبين الأناة والحكمة وبين الغباء والتسويف وذهاب الغيرة، ثم بين صلاح الدين وعز المذهب وبين تعظيم “رمزه” ومصلحة حزبه…

يتباكى على وحدة الكلمة وتوفير الجهد والطاقة ورص الصفوف في الجبهة الداخلية، ومنع النزاع والشقاق والفرقة بين الشيعة…
ثم يسحق كل ذلك بنعله ويدوسه بقدمه حين يتصدى ويثور فجأة، في موقع ما وحالة معينة، لم ير حزبه أن يسكت عنها، فيفتح جبهة ضد تيار شيعي ويشعل حرباً ضروساً ضد جماعة وحزب آخر، تطال رموزه، بل تبدأ بهم، ولا توفر شيئاً ولا أحداً إلا أتت عليه بمعول الهدم ومسحاة القلع والاجتثاث!

فلماذا سكت نفس هذا المداهن المضارع، المتبجح بهذه الشعارات البراقة، عن فضل الله والحيدري، ثم ثار ضد الشيرازي، على الرغم من اتحاد الملاك؟.. لا أحد يدري!
 

هنا ميدان الأكياس وذوي البصائر والحكماء، كما هو مهلكة الأغبياء وأحاديي الرؤية والمتقوقعين الجهلاء…

لقد تركوا أعظم فريضة وأسمى طاعة… وكأن أميرالمؤمنين عليه السلام لم يخاطبنا في قوله: “أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة”.. وهل من معصية أعظم من غصب الولاية وادعاء الفقاهة؟! ومن جحد حق أهل البيت والتشكيك في ظلاماتهم، ثم نسف مباني علومهم وهدم قواعد معارفهم؟! وهم يتلقون أهلها بالبشر والسرور، بل يمدونهم بالعون والنصرة!
وفي رواية أخرى قال الصادق عليه السلام: “لآخذن البريء منكم بذنب السقيم! ولم لا أفعل ويبلغكم عن الرجل ما يشينكم ويشينني فتجالسونهم وتحدثونهم فيمر بكم المار فيقول: هؤلاء شر من هذا؟! فَلَو أنكم إذا بلغكم ما تكرهونه زبرتموهم ونهيتموهم كان أبر بكم وبي”.. فلا يسمعون ولا يعون! فحق أن يكونوا شراً منهم وأسوأ.

إن ما بين المداهنة والمداراة، وبين التقية والركون إلى الظلمة.. خيط رفيع لا يميزه إلا الأكياس الحكماء، والبصراء الأتقياء… وإلا فهي شعرة معاوية يرخيها الدهاء هنا ويشدها هناك، وتحكمها المصالح الدنيوية أبداً.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

4 آراء حول “قتلتنا المداهنة

  1. هذا تقييمك أنت وأنا أعرف خلفيته وأساسه

    لكن لا يمكن لك أن تقول أن هذا رأي كل أهل الخبرة
    فعلى سبيل المثال هل عدم بلوغه الاجتهاد هو رأي السيد المرعشي قدس سره او السيد الگلبيگاني أو السيد محمد صادق الروحاني او السيد محمد تقي القمي قدس سره أو الشيخ المنتظري قدس سره أو السيد الأبطحي عليه الرحمة، بل هل هذا رأي شيخ الفقهاء الشيخ الوحيد
    بل هل هذا رأي السيد السيستاني والحكيم والشيخ بشير والفياض وشيخ الفقهاء الشيخ الوحيد دامت بركاته؟!
    مما أردت أن تصرف زيارت بعضهم لبعض عن معانيها واعتبارها مجاملات، مع أنك تعلم أن الشيخ الوحيد كان يسافر لمشهد عندما يزور احد قم لئلا يلتقيه!!

    بل سمعت أحد تلامذة السيد الخوئي قدس سره لقرابة 15سنة ممن يعطي بحث الخارج في النجف يثني على علمية السيد صادق الشيرازي بل قارن بينه وبين متصد للمرجعية فاشار أنه اجود استنباطا من ذلك المرجع.

    شيخ عباس
    رأيك في سوء الحزبية اتفق معك في غالبه لكني اراك تقع في نفس الإشكال من التحزب ليس لحزب لكن لجهة، وهذا مما يعيب المؤمن.

    إعجاب

    • الأصل عدم الاجتهاد، ولثبوته نحتاج الى بينة، شهادة أهل خبرة، فضلاء معترف بهم، معروفون بالعلم والعدالة والنزاهة… والسيد صادق يفتقد الى ذلك
      والسياق المنطقي الذي يلاحق سيرة الرجل وعمره من كربلاء الى الكويت الى قم، وخلوها من المشايخ والتلاميذ… يجزم بعدم الاجتهاد.
      مسألة الصور والزيارات في استدلال القوم على الفقاهة، أشبه باستدلال المخالفين على موقفهم بمصاهرة النبي وزواجه من المرأتين، تجاهل لحقائق علمية، روايات وآيات وجبال من الادلة، وتمسك بالمصاهرة وتسمية الأبناء

      إعجاب

  2. قلت: “فلماذا سكت نفس هذا المداهن المضارع، المتبجح بهذه الشعارات البراقة، عن فضل الله والحيدري، ثم ثار ضد الشيرازي، على الرغم من اتحاد الملاك؟.. لا أحد يدري!”

    أي ملاك يتحد بين الشيرازي وفضل الله والحيدري

    هل تعاملهم مع أحاديث بيت العصمة و فضائلهم ومقاماتهم واحد أم نظرهم في الشعائر متساوي؟

    انصف ياشيخ فالانصاف عزيز ولا يتحلى به إلا أصحاب المرواءة والدين القويم.

    إعجاب

التعليقات